سبب نزول سورة الإخلاص
روي في سبب نزول هذه السورة أن المشركين قالوا للنبي عليه الصلاة والسلام: انسب لنا ربك؛ فنزلت هذه السورة، وقال عز وجل فيها: ﴿لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ﴾ [الإخلاص: ٣]، رداً على إثبات النسب له سبحانه وتعالى.
وقد جاء مثل هذا المعنى حينما سأل فرعون موسى عليه السلام عن ربه فقال له: ﴿وَمَا رَبُّ الْعَالَمِينَ﴾ [الشعراء: ٢٣] فجاء جوابه: ﴿قَالَ رَبُّ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا إنْ كُنتُمْ مُوقِنِينَ * قَالَ لِمَنْ حَوْلَهُ أَلا تَسْتَمِعُونَ * قَالَ رَبُّكُمْ وَرَبُّ آبَائِكُمُ الأَوَّلِينَ * قَالَ إِنَّ رَسُولَكُمُ الَّذِي أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ لَمَجْنُونٌ﴾ [الشعراء: ٢٤ - ٢٧].
فما موجب قول فرعون -لعنه الله- عن موسى عليه السلام إنه لمجنون؟ لأنه سأله بـ (ما) فقال: (وما رب العالمين)؟ و (ما) يُسئل بها عن شرح الماهية، فكان مقتضى السؤال بها أن يبين ماهية الرب عز وجل، من أي شيء هو؟ كما يقال في جواب قول القائل:-ولله المثل الأعلى- ما الإنسان؟ فيجاب: هو حيوان ناطق مثلاً.
ولكن موسى عليه السلام أعرض عن سؤال فرعون؛ لأنه جاهلٌ بالله ولا يعرف ما الذي يليق أن يُسئل به عن الله وما الذي لا يليق؛ فسأل فرعون لجهله عن حقيقة الله تعالى، أو لتجاهله عن هذه الحقيقة، أو كان ذلك منه جحوداً وعناداً، كما قال تعالى: ﴿وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا﴾ [النمل: ١٤].
فأتى الجواب بما يخصه هو، فالله سبحانه وتعالى لا يعلم كيفيته إلا هو.
إذاً: لا يوجد أي أمل على الإطلاق في أن يدرك الإنسان ربه، أو يحيط به علماً، فهذا لا مطمع لأحد فينا به على الإطلاق، فلا يعرف كيفية الله إلا الله عز وجل، فغير وارد أبداً أن يحاط بالله سبحانه وتعالى علماً، فأي إنسان مهما حاول أن يُعمل عقله وخاض بكل ما أوتي من قوة ومن علم أن يعرف كيفية الله فالله قطعاً بخلاف ما توهمه؛ لأنه تعالى: ﴿لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ﴾ [الشورى: ١١] أي: ليس كالله شيء.
فأنت تستطيع أن تتصور في خيالك وفي عقلك الشيء الذي رأيته من قبل، فإذا قلت لك مثلاً: قلم، كوب، طائرة، دبابة، سيارة، عمود، حجر، ماء، فهذه أسماء وألفاظ قلتها، وكل منكم في مخيلته صورة لها فتستطيعون أن تتخيلوها؛ لأنكم رأيتموها، فيستطيع المرء أن يتصورها بالكيفية التي رآها عليها، وأما الله تعالى فمتى رآه حتى يتصوره ويكيفه بصورة معينة؟!! إذاً: فهذا الأمر في غاية الأهمية، وقد أيأسنا الله سبحانه وتعالى من تخيل بعض المخلوقات كالجنة مثلاً، فقد جاء في الحديث القدسي: (أعددت فيها لعبادي الصالحين ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر) أي: أنك مهما حاولت أن تتخيل نعيم الجنة وما فيها من فاكهة ونخيل وأعناب وأنهار فلا تستطيع، مع أننا قد رأينا في الدنيا هذه الأشياء، ومع ذلك فالجنة بخلاف ذلك، ولا موافقة بين ما في الدنيا وما في الجنة إلا في الأسماء فقط، فإذا كان هذا في المخلوقات فكيف بحق الله سبحانه وتعالى؟! فلا أمل على الإطلاق في هذا، فينبغي للإنسان ألّا يهدر طاقته العقلية والذهنية في التفكير في شيء أيأسنا الله من أن نصل إليه، ولذلك لما كان بعض الناس يخوض في تشبيه الله بخلقه أفحمه بعض العلماء، فاستقرأه حديث الإسراء، وكيف أن الرسول عليه الصلاة والسلام قال: (رأيت جبريل في صورته وله ستمائة جناح، ما منها جناح إلا قد سد ما بين المشرق والمغرب).
فإذا كان هذا في مخلوق من مخلوقات الله تعالى فكيف بالله تعالى! فقال له: صف لي خلقاً من خلق الله له ستمائة جناح؟ فعجز، فقال له: فأنا أضع عنك خمسمائة وسبعة وتسعين جناحاً، فصف لي خلقاً من خلق الله له ثلاثة أجنحة؟ فبهت وتحير، فقال له: يا أبا فلان! قد عجزنا عن صفة المخلوق فنحن عن صفة الخالق أعجز.
إذاً: فلا مطمع ولا أمل على الإطلاق في أن يعرف أحد كيفية الله أبداً، فعلينا أن نثبت له الصفات كما وردت في القرآن والسنة، ولا نكيف، ولا نمثل، ولا نعطل.
إذاً: ففرعون يسأل عن ماهية رب العالمين في قوله: ﴿وَمَا رَبُّ الْعَالَمِينَ﴾ [الشعراء: ٢٣]، وهذا سؤال لا يمكن أن يدرك أحد جوابه، فموسى عليه السلام رد عليه بما يخصه ويلزمه الاعتراف به من أن الله سبحانه وتعالى رب السموات والأرض وما بينهما، وليست كربوبية فرعون الكاذبة.
ومثل ذلك في القرآن: عندما سألوا عن الأهلة لماذا تبدو صغيرة وبعدها تكبر؟ فهذا سؤال عن حقيقة تغيرها، فترك القرآن الجواب على سؤالهم، وأجابهم بما يخصهم، وما يلزمهم وينفعهم، فقال تعالى: ﴿يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ﴾ [البقرة: ١٨٩].
وكذلك جواب الخليل عليه السلام للنمرود عندما حاجه في ربه كما في قوله تعالى: ﴿إِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ قَالَ أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ قَالَ إِبْرَاهِيمُ فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ الْمَغْرِبِ فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ﴾ [البقرة: ٢٥٨]، فهذا أسلوب في المناظرة، فإبراهيم عليه السلام لم ينتقل عجزاً عن جواب السؤال الأول، فالنمرود كان عنده مخارج في المشاغبة، فقال: أنا أحيي وأميت، فأتى برجلين فحكم على أحدهما بالإعدام والثاني أطلقه، فقال له: أنا الآن أحيي وأميت، فهذا نوع من الشغب، فلم يتفرغ إبراهيم لمناقشة شغبه، وانتقل إلى حجة لا يمكن بحال من الأحوال أن يدعي أن له قدرة عليها، فقال تعالى: ﴿قَالَ إِبْرَاهِيمُ فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ الْمَغْرِبِ فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ﴾ [البقرة: ٢٥٨].
وقد جاء أيضاً أن المشركين سألوا رسول الله ﷺ عن حقيقة ربه كما جاء في بعض الرويات: وإلهك هذا من نحاس، أم من خشب، أم من كذا أم من كذا؟ وفي بعض الرويات أنهم قالوا: انسب لنا ربك، فجاء الجواب بصفات الله: ﴿قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ﴾ [الإخلاص: ١]، لأن النسب لا يكون إلّا للمخلوق، وعندما تسأل عن الماهية فهذا في المخلوق، لكن الله سبحانه وتعالى لا يسأل عنه أبداً بهذا السؤال، فما يسألون عنه إنما يكون في المخلوقات لا في الخالق سبحانه وتعالى، وفي الممكن لا في الواجب الوجود، فهو سبحانه لا يدرك كنهه غيره عز وجل، وصدق الله العظيم في قوله: ﴿لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ﴾ [الشورى: ١١]، وفي قوله: ﴿يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْمًا﴾ [طه: ١١٠].
ولشيخ الإسلام ابن تيمية كتابان في تفسير سورة الإخلاص، وهذه السورة لو مكثنا سنة كاملة في تفسيرها لا نفرغ؛ لأن فيها من المعاني والأسرار والحكم ما تنقطع دونه الأعناق، والكتابان هما: (تفسير سورة الإخلاص)، والثاني: (جواب أهل العلم والإيمان في ما ورد من أن قل هو الله أحد تعدل ثلث القرآن)، وهذا من أبدع كتب شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى، فنكتفي بهذا القدر من تفسير سورة الإخلاص.