تفسير قوله تعالى: (فتقبلها ربها بقبول حسن)
قال تعالى: ﴿فَتَقَبَّلَهَا رَبُّهَا بِقَبُولٍ حَسَنٍ وَأَنْبَتَهَا نَبَاتًا حَسَنًا وَكَفَّلَهَا زَكَرِيَّا كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا الْمِحْرَابَ وَجَدَ عِنْدَهَا رِزْقًا قَالَ يَا مَرْيَمُ أَنَّى لَكِ هَذَا قَالَتْ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ﴾ [آل عمران: ٣٧] ((فَتَقَبَّلَهَا رَبُّهَا)) أي: قبل مريم من أمها، والقبول هو أخذ الشيء على وجه الرضا.
((فَتَقَبَّلَهَا رَبُّهَا بِقَبُولٍ حَسَنٍ)) يعني: أنها صالحة؛ لأن تكون محررة، وأن امرأة عمران وفت بنذرها، وذلك كما جاء في بعض التفاسير: أنها لفتها في خرقة وأرسلتها إلى المسجد، وورد أنها ربتها حتى كبرت وصلحت لخدمة المسجد فأرسلتها؛ لكن الإمام القرطبي رحمه الله تعالى لم يفته أن ينوه على شيء مهم جداً قال: حتى لو كانت تصلح في شريعتهم أن تقوم بخدمة المسجد، فلعل الحجاب لم يكن عندهم كما كان في صدر الإسلام.
واستدل بالحديث المتفق عليه: (أن امرأة سوداء كانت تقم المسجد على عهد رسول الله ﷺ فماتت) والحديث معروف، فمعنى ذلك: أن هذا كان في بداية الإسلام، وفي صدر الإسلام؛ كذلك كانت المرأة تصلح أو الأنثى تصلح في شريعتهم لمثل هذا، ولم يكن الحجاب بنفس الصورة في الإسلام موجوداً عندهم، فلأجل ذلك كانت في المسجد، والله أعلم.
بعض القضايا نريد أن نتوقف عندها قليلاً: فأولى هذه القضايا: قوله تعالى هنا: ﴿وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالأُنْثَى﴾ [آل عمران: ٣٦]، يخبرنا سبحانه وتعالى بهذه القضية السالبة، والكفرة والملحدون الآن يقولون: بل الذكر كالأنثى فيجعلونها موجبة، فلا شك بعد قول الله سبحانه وتعالى في صدق هذه السالبة، وكذب هذه الموجبة.
((فَتَقَبَّلَهَا رَبُهَا بِقَبُولٍ حَسَنٍ وَأَنْبَتَهَا نَبَاتًا حَسَنًا))، أي: أنشأها بخلق حسن.
وجاء في التفسير أنها من حيث معدل النمو قد كانت تنبت في اليوم كما ينبت المولود في العام، وأتت بها أمها.
وهناك تفاسير أخرى لقوله تعالى: ﴿وَأَنْبَتَهَا نَبَاتًا حَسَنًا﴾ أي: بجعل ذريتها من كبار الأنبياء.
والتفسير الأول يحتاج إلى دليل مرفوع.
أما التفسير الثاني فقد جعل الله من ذريتها المسيح عليه السلام من أولي العزم من الرسل ومن كبار الأنبياء.
قال الزمخشري عند قوله تعالى: ((وَأَنْبَتَهَا نَبَاتًا حَسَنًا)) مجاز عن التربية الحسنة، هي العائدة عليها بما يصلحها في جميع أحوالها، كالصلاح والسداد والعفة والطاعة.
وأتت بها أمها الأحبار سدنة بيت المقدس، فقالت: (دونكم هذه النذيرة خذوها، فتنافسوا فيها؛ لأنها بنت إمامهم وسيدهم عمران، فقال زكريا: أنا أحق بها؛ لأن خالتها عندي، فقالوا: لا، حتى نقترع.
فالأقرب أنهم تنافسوا أيهم يكفل مريم تنافساً في الخير؛ لأنهم جميعاً كانوا يحبون ذلك ويتنافسون عليه، لا كما زعم بعضهم أنهم أصابهم فقر، وتنازعوا فيمن يتحمل نفقتها كأنهم كانوا متضررين من ذلك، فحسماً للنزاع اقترعوا.
هذا بعيد! فقال زكريا: (أنا أحق بها؛ لأن خالتها عندي، فقالوا: لا، حتى نقترع، فانطلقوا وهم تسعة وعشرون إلى نهر الأردن، وألقوا أقلامهم على أن من ثبت قلمه في الماء وصعد فهو أولى بها، ومن غرق قلمه أو ذهب مع الماء فلا حق له فيها، فثبت قلم زكريا، فأخذها وبنى لها غرفة في المسجد بسلم لا يصعد إليها غيره، وكان يأتيها بأكلها وشربها ودهنها، فيجد عندها فاكهة الصيف في الشتاء، وفاكهة الشتاء في الصيف، كما قال تعالى: ((وَكَفَّلَهَا زَكَرِيَّا كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا الْمِحْرَابَ وَجَدَ عِنْدَهَا رِزْقًا)) [آل عمران: ٣٧])، أحد الصحابة رضي الله تعالى عنهم أيضاً كان له مثل هذه الكرامة، وذلك عندما كان مأسوراً عند الكفار، فكان يوجد عنده قطف من العنب في الشتاء، والله أعلم.
((وَكَفَّلَهَا زَكَرِيَّا)) أي: ضمها إليه، أصل كلمة: ((زكريا)) تذكار الرب، يعني: تذكر الرب سبحانه وتعالى، وهي تقرأ: ((زكريا)) أو (زكرياء) والمكفل هو الله سبحانه وتعالى: ((وَكَفَّلَهَا زَكَرِيَّا))، إذاً: إعراب زكريا مفعول ثان.
((وَكَفَّلَهَا زَكَرِيَّا كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا الْمِحْرَابَ))، المحراب: هو أشرف المجالس؛ لأن المحراب هو الغرفة والموضع العالي، وهو سيد المجالس ومقدمها وأشرفها.
وسمي محراب المسجد بهذا الاسم؛ لانفراد الإمام فيه وبعده عن القوم يقال: فلان حرب لفلان؛ يعني: إذا كان بينهما مباغضة ومباعدة وخصام، فيعبرون عن ذلك بكلمة: (حرب) لأن فيه معنى البعد.
وقيل: المحراب مأخوذ من المحاربة؛ لأن المصلي يحارب الشيطان، ويحارب نفسه بإحضار قلبه.
وعلى أي الأحوال فالمحراب المقصود به أنه أشرف الأماكن وأكرم المواضع من المجلس، وأشرف المسجد هو مقام الإمام.
((كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا الْمِحْرَابَ))، (كلما) صيغة عموم تعم الوقت كله، أي: كلما دخل الغرفة ((وَجَدَ عِنْدَهَا رِزْقًا قَالَ يَا مَرْيَمُ أَنَّى لَكِ هَذَا)) أي: من أين لك هذا؟ ((قَالَتْ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ))، مع أنها كانت صغيرة؛ لكنها أجابت هذه الإجابة التي تفصح عن يقينها وإيمانها، بالله عز وجل، ((هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ)) أي: أنه يأتيني به من الجنة.
ثم ذكرت التعليل؛ حيث قالت: ((إِنَّ اللَّهَ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ))، الحساب هنا بمعنى: التضييق والتقتير.
فقولها: ((إِنَّ اللَّهَ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ))، فيه كرامة لـ مريم عليها السلام.
((بِغَيْرِ حِسَابٍ)) أي: رزقاً واسعاً بلا تبعة، أو ((بِغَيْرِ حِسَابٍ)) أي: بغير تقدير لكثرته، أو بغير استحقاق تفضلاً منه تبارك وتعالى ومحض فضل ومنّة من الله عز وجل.