تفسير قوله تعالى: (فنادته الملائكة وهو قائم يصلي في المحراب)
قال تعالى: ﴿فَنَادَتْهُ الْمَلائِكَةُ وَهُوَ قَائِمٌ يُصَلِّي فِي الْمِحْرَابِ أَنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكَ بِيَحْيَى مُصَدِّقًا بِكَلِمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَسَيِّدًا وَحَصُورًا وَنَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ﴾ [آل عمران: ٣٩].
((فَنَادَتْهُ الْمَلائِكَةُ وَهُوَ قَائِمٌ يُصَلِّي فِي الْمِحْرَابِ))، قيل: الملائكة على ظاهرها، وقيل: المقصود بها: ملك واحد وهو جبريل عليه السلام.
((وَهُوَ قَائِمٌ يُصَلِّي فِي الْمِحْرَابِ)) أي: المسجد أو مكان العبادة.
((أَنَّ اللَّهَ)): يعني: بأن الله، وفي قراءة بالكسر: بتقدير أن الملائكة أو أن جبريل قال: (إن الله).
((يُبَشِّرُكَ))، إما يُبشِّرُك، أو يَبْشُرك، البَشَرة هي ظاهر الجلد.
((بِيَحْيَى))، يحيى أصلها في لغتهم: يوحنا، ومعناها في نعمة الرب.
((مُصَدِّقًا بِكَلِمَةٍ مِنَ اللَّهِ)) أي: بكلمة كائنة من الله سبحانه وتعالى، وهي كلمة: كن؛ لأن هناك آية أخرى فصلت ما هي هذه الكلمة كما في قوله تعالى: ﴿إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشَيْءٍ إِذَا أَرَدْنَاهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ﴾ [النحل: ٤٠].
((بِكَلِمَةٍ مِنَ اللَّهِ)) أي: يحيى، مصدقاً بعيسى أنه روح الله وأمره وكلمته؛ لكن روح المسيح كباقي أرواح المخلوقات، أي أن قوله تعالى: ﴿وَرُوحٌ مِنْهُ﴾ [النساء: ١٧١] ليس المقصود البعضية أو الجزئية والعياذ بالله، لا يمكن أبداً أن يكون المسيح جزءاً من الله سبحانه وتعالى معاذ الله، هذا كفر بلا شك.
لكن المقصود بـ (من) هنا، مِن الابتدائية أي: أن ابتداء خلقه منه سبحانه وتعالى، وذلك كما في قوله تعالى: ﴿وَسَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ جَمِيعًا مِنْهُ﴾ [الجاثية: ١٣] هل كل ما في السماوات والأرض جزء من الله؟! لا، لكن ابتداء خلقها من الله، كذلك قوله: ((بِكَلِمَةٍ مِنَ اللَّهِ)) هي (كن).
أما قوله: ((وَنَفَخَ فِيهِ مِنْ رُوحِهِ)) [السجدة: ٩]، فكل مخلوق ينفخ الله فيه من روحه، وهذه الروح مخلوقة بلا شك خلقها الله، كما تقول: بيت الله، ناقة الله، هذه إضافة تشريف، فروح الله يعني: الروح التي خلقها الله له.
ويقول تعالى: ﴿وَبَدَأَ خَلْقَ الإِنسَانِ مِنْ طِينٍ﴾ [السجدة: ٧]، ﴿ثُمَّ سَوَّاهُ وَنَفَخَ فِيهِ مِنْ رُوحِهِ﴾ [السجدة: ٩].
((وَسَيِّدًا)) أي: متبوعاً يسود قومه ويفوقهم ((وَحَصُورًا)) أي: ممنوعاً من النساء من غير علة، بمعنى: أنه لا يرغب فيهن؛ بسبب اشتغاله بطاعته لله سبحانه وتعالى وعبادته، فإنما يمتنع من ذلك عفة وزهداً واجتهاداً في الطاعة؛ لأن هذا بلا شك وارد في سياق الثناء على يحيى عليه السلام، فالثناء يكون بالأمر المكتسب، لا بالأمر الجبلي، بهذا يبطل قول بعض المفسرين: إنه كان عنيناً لا يأتي النساء.
وصيغة (حصور) بوزن فعول، وهي بمعنى: حاصر، أي: أنه يحصر نفسه عن الشهوات، ونقول: إن هذا لعله كان في شرعهم، أما شرعنا فهو بخلاف ذلك، فإنه لا يمدح الإنسان بالزهد في هذا الأمر، بل بالعكس حرض نبينا ﷺ على هذا، ونهى عن التبتل كما نهى عثمان بن مظعون رضي الله تعالى عنه، وكما نهى أبا هريرة عن الاختصاء، وكما قال في حديث الرهط الثلاثة: (وأنكح النساء، فمن رغب عن سنتي فليس مني).
إذاً: ديننا وشرعنا بخلاف ذلك، وإنما فيه حث وتحريض على النكاح، أما الرهبانية في هذه الأمة فهو الجهاد، وقال عليه الصلاة والسلام: (تناكحوا تناسلوا فإني مباهٍ بكم الأمم يوم القيامة)، وفي حديث عياض بن حمار المشهور في صحيح مسلم، قال عليه الصلاة والسلام: (وأهل النار خمسة)، فذكر من أهل النار: (الضعيف الذي لا زبر -أي: لا عقل- له، والذين هم فيكم تبعاً لا يبغون أهلاً ولا مالاً)، أي: من لا يطمح في أن يتزوج ويكون له أهل أو يجتهد في توسيع رزقه.
قوله: (لا يبغون أهلاً ولا مالاً)، هذا من دناءة الهمة وخستها، يقول: حتى لا أتحمل المسئولية، وإذا انضم إلى ذلك ما يدعو إليه من الفواحش، فإن الأمة تصير إلى المهالك والمفاسد.
((وَنَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ))، أي: ناشئاً من الصالحين؛ لأنه من ذرية قومٍ صالحين ومن أصلابهم، أو كائناً من جملتهم، والصالح: هو الذي يؤدي لله ما افترض عليه، ويؤدي إلى الناس حقوقهم، هذا حد الرجل الصالح.
وروي (أنه لم يعمل خطيئة ولم يهم بها عليه السلام).