حكم التسري بأكثر من واحدة والعدل بينهن
﴿أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ﴾ [النساء: ٣] أي: من الإماء، بالغة ما بلغت من مراتب العدد؛ لأنه لا يجب لهن من الحقوق مثلما يجب للحرائر، ولا قسم لهن.
(أو) المقصود بها التسوية والتخيير.
قال الزمخشري: سوى في السهولة واليسر بين الحرة الواحدة، وبين الإماء من غير حصر ولا توقيت عدد، ولعمري إنهن أقل تبعة وأقصر شغباً وأخف مؤنة من المهائر -يعني: من الحرائر-، لا عليك أكثرت منهن أم أقللت، عدلت بينهن في القسم أم لم تعدل، عزلت عنهن أم لم تعزل.
﴿ذَلِكَ أَدْنَى أَلَّا تَعُولُوا﴾ [النساء: ٣] أي: الاقتصار على واحدة، أو على نكاح الإماء بالتسري، (أدنى) أي: أقرب (أن لا تعولوا) أي: ذلك أقرب ألا تميلوا، ولا تجوروا لانتفائه رأساً بانتفاء محله في الأول، يعني: لو كانت حرة واحدة أصالة زال احتمال الجور، وانتفاء خطره في الثاني إذا نكحتم الإماء، في هذه الحالة ينتفي الخطر بخلاف اختلاف العدد في المهائر؛ لأن التعدد في الحرائر فيه الميل المحظور متوقع لتحقق أمرين: تحقق المحل، وتحقق الخطر، لتحقق المحل أم لمجرد التعدد في الحرائر، يصبح هو نفسه محل لهذه المخالفة التي هي عدم العدل، لكن إذا كانت واحدة فذلك يكون أدنى وأقرب ألا يقع في الجور والظلم والميل عن الحق، وهذا هو اختيار أكثر المفسرين ﴿ذَلِكَ أَدْنَى أَلَّا تَعُولُوا﴾ [النساء: ٣].
(تعولوا) من عال يعول إذا جار وعدل عن الحق.
ومن الوجوه المحتملة فيه: كونه مضارعاً، بمعنى: عال فلاناً عولاً وعيالةً أي: كثر عياله كأعول وأعيل، وعلى هذا الوجه اقتصر الإمام المهايمي في تفسيره حيث قال: أي: ذلك أقرب من ألا تكثر عيالكم، فيمكن معه القناعة، بحيث لا يضطر إلى الجور في أموال اليتامى.
تدل هذه الآية على أن من خشي الوقوع فيما لا يجوز، قبح منه ما دعا إلى ذلك القبيح، كأن يخشى الإنسان من نفسه أن يقع فيما لا يجوز فينبغي أن يسد الذرائع، مثل: أن الإنسان لا يأمن نفسه إذا التقط اللقطة أن يطمع فيها ولا يحفظها لصاحبها ولا يعرفها، ففي هذه الحالة يحرم عليه أن يلتقط اللقطة، كذلك هنا إذا خشي مع تعدد الزوجات أن يقع في الجور والظلم ففي هذه الحالة ينبغي له أن يكف عن الزواج بأكثر من واحدة، كذلك لا يجوز لمن عرف أنه يخون الوديعة ولا يحفظها فإنه لا يجوز له قبول الوديعة.
هناك إشكال وإجمال في مسألة الربط بين قوله تبارك وتعالى: ﴿وَآتُوا الْيَتَامَى أَمْوَالَهُمْ وَلا تَتَبَدَّلُوا الْخَبِيثَ بِالطَّيِّبِ وَلا تَأْكُلُوا أَمْوَالَهُمْ إِلَى أَمْوَالِكُمْ إِنَّهُ كَانَ حُوبًا كَبِيرًا﴾.
وهذه الآية التي بعدها مباشرة: ﴿وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا فِي الْيَتَامَى فَانكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ مَثْنَى وَثُلاثَ وَرُبَاعَ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ ذَلِكَ أَدْنَى أَلَّا تَعُولُوا﴾ [النساء: ٣].
وهو أن قوله تعالى: ((ذَلِكَ أَدْنَى أَلَّا تَعُولُوا)) أي: أدنى ألا تكثر عيالكم فتفتقروا وتضطروا إلى الجور في مال اليتيم الذي أنتم أوصياء عليه، في هذه الصورة يظهر لنا وجه الربط بين هذه الآية والتي قبلها.


الصفحة التالية
Icon