مفهوم القصر في الآية وحكمه حال الخوف وحال الأمن
قوله: ((أَنْ تَقْصُرُوا)) في أن تقصروا من الصلاة الرباعية إلى ركعتين.
((إِنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمُ)) أن ينالوكم بمكروه.
((الَّذِينَ كَفَرُوا)) هذا بيان للواقع إذ ذاك، والمقصود من هذه الآية بيان الواقع الذي كان موجوداً زمن نزول الآية، وعلى هذا لا مفهوم لهذه الآية، بمعنى: ليس خوف المكروه شرطاً في جواز القصر، لكن الواقع أثناء نزول القرآن في ذلك الزمن، وهو زمن البعثة أن الصحابة رضي الله تعالى عنهم كانوا يخافون أن يفتنهم الذين كفروا، أي: أن ينالوهم بمكروه في أثناء أسفارهم.
فالصحيح أن هذه هي الظروف المناسبة عند نزول هذه الآية، لكن ليس معنى ذلك: أن الإنسان لا يقصر إلا إذا خاف أن يفتنه الذين كفروا، بل يقصر إذا سافر في الأرض عموماً.
إذاً: هذه الآية ليس معناها: وإذا ضربتم في الأرض فليس عليكم جناح أن تقصروا من الصلاة إن خفتم أن يفتنكم الذين كفروا.
أي: لا تقصروا إن أمنتم الذين كفروا، فهذا المفهوم غير معتبر، فهو مجرد بيان للواقع الذي كان يعيشه الصحابة، والقصر غير مقيد بهذا الشرط، فالشرط هنا ملغي، كما في قوله تبارك وتعالى في سورة النور: ﴿وَلا تُكْرِهُوا فَتَيَاتِكُمْ عَلَى الْبِغَاءِ إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّنًا لِتَبْتَغُوا عَرَضَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا﴾ [النور: ٣٣]، هل معنى ذلك أنهن إن لم يردن تحصناً يجوز لهن الزنا؟ لا، فليس هذا المفهوم معتبراً، بل هو ملغي، كذلك هنا هذا المفهوم غير معتبر، يعني: ليس خوف المكروه شرطاً في جواز القصر.
وقد بينت السنة فيما رواه ابن خزيمة موقوفاً على ابن عباس بإسناد صحيح أن المراد بالسفر: السفر الطويل، وهو أربعة برد والبريد اثنا عشر ميلاً، وهي مرحلتان أي: مسيرة يومين بالسير المعتدل.
ويؤخذ من قوله: ((فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ)) أنه رخصة لا واجب، وعليه الشافعي.
((إِنَّ الْكَافِرِينَ كَانُوا لَكُمْ عَدُوًّا مُبِينًا))، يعني: بيني العداوة، ظاهرين في عداوتهم.
يقول القاسمي رحمه الله تعالى: ((وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الأَرْضِ)) أي: سافرتم.
((فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ)) أي: إثم.
((أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلاةِ)) يعني: أن تنقصوا الرباعية إلى اثنتين.
((إِنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمُ)) أي: أن يقاتلكم الذين كفروا في الصلاة.
((إِنَّ الْكَافِرِينَ كَانُوا لَكُمْ عَدُوًّا مُبِينًا)) يعني: ظاهري العداوة، فلا يراعون حرمة الصلاة فيظهرون عداوتهم إذا رأوكم تصلون فلم يردعهم ذلك عن أن ينالوكم بأذى، فذهب جمهور العلماء إلى أن الآية المراد بها مشروعية صلاة السفر، وليست في صلاة الخوف.
فمعنى قوله تبارك وتعالى: ((فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلاةِ)) هو قصر الكمية، وذلك بأن تجعل الرباعية ثنائية، قالوا: وحكمها للمسافر في حال الأمن كحكمها في حال الخوف؛ لتظاهر السنن على مشروعيتها مطلقاً، حيث جاءت السنة لتثبت مشروعية قصر الصلاة في كل الأحوال سواء كان في حالة الخوف أو في حالة الأمن.
روى الترمذي والنسائي وابن أبي شيبة عن ابن عباس رضي الله عنهما: (أن النبي ﷺ خرج من المدينة لا يخاف إلا الله رب العالمين، فصلى ركعتي)، يعني: كان آمناً.
وروى البخاري وبقية الجماعة عن حارثة بن وهب رضي الله عنه قال: (صلى بنا رسول الله ﷺ آمناً ما كان بمنى ركعتين) وهذا في البخاري.
وروى البخاري والبقية عن أنس رضي الله عنه قال: (خرجنا مع رسول الله ﷺ من المدينة إلى مكة فكان يصلي ركعتين ركعتين حتى رجعنا إلى المدينة، قلت: أقمتم بمكة شيئاً؟ قال: أقمنا بها عشراً).
وقوله تعالى: ((إِنْ خِفْتُمْ)) خرج مخرج الغالب حال نزول الآية، يعني: أنهم حال نزول الآية كان الغالب أنهم إذا انطلقوا في أرجاء الجزيرة مسافرين فإنهم لا يأمنون أن يفتنهم الذين كفروا، إذ كانت أسفارهم بعد الهجرة في مبدئها مخوفة، بل الغالب أنهم ما كانوا يضربون في الأرض إلا في حالة الغزو، ولم يكونوا يخرجون للتجارة ولا للسياحة ولا للنزهة، إنما كانوا يخرجون وقد حشدهم الرسول صلى الله عليه وعلى آله وسلم في السرايا والغزوات.
وسائر الأحياء حرب للإسلام وأهله، والمنطوق إذا خرج مخرج الغالب فلا مفهوم له.
وهذه إحدى الحالات التي لا يعمل فيها بالمفهوم، بل يلغى؛ لأنه خرج مخرج الغالب، والأمثلة على ذلك كثيرة كما في قوله تبارك وتعالى: ﴿وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ مِنْ إِمْلاقٍ﴾ [الأنعام: ١٥١]، هل معنى ذلك أن الإنسان يمكن أن يقتل ولده بسبب آخر غير الإملاق والفقر؟ لا، لا يمكن؛ وذلك لأن هذه الآية خرجت مخرج الغالب، يعني: كان الأغلب في سبب قتل الأولاد عندهم خوف الإملاق.
ومثل قوله تبارك وتعالى: ﴿وَرَبَائِبُكُمُ اللَّاتِي فِي حُجُورِكُمْ مِنْ نِسَائِكُمُ﴾ [النساء: ٢٣]، هل معنى ذلك: أنه لابد أن يكن الربائب في حجور أزواج الأمهات؟ لا، بل يمكن أن تكون بنت الزوجة التي هي الربيبة لا تعيش مع أمها عند زوج أمها، بل تحرم على الرجل بعد الدخول على أمها، فهذا المفهوم أيضاً خرج مخرج الغالب.
ومثل قوله تعالى: ﴿لا تَأْكُلُوا الرِّبَا أَضْعَافًا مُضَاعَفَةً﴾ [آل عمران: ١٣٠]، هل معنى ذلك: أن هذه الآية لها مفهوم؟ لا، بل هذا خرج مخرج الغالب، بمعنى: أن أغلب الربا إنما يكون أضعافاً مضاعفة، لكن هل يصح أن يؤخذ من مفهوم الآية أنه يجوز للإنسان أن يتعامل بالربا إذا كانت نسبته ضئيلة كما يقول المضللون وعلماء السوء؟! هؤلاء يخدعون الناس بقولهم: إن الربا لو كانت نسبته يسيرة فليس بحرام؛ لأن ربنا قال: ((أَضْعَافًا مُضَاعَفَةً)) [آل عمران: ١٣٠]، فهذا من نفس الباب.
يدل أيضاً على أن المراد بالآية صلاة السفر ما رواه الإمام أحمد ومسلم وأهل السنن عن يعلى بن أمية قال: (سألت عمر بن الخطاب رضي الله عنه قلت له: قوله تعالى: ((فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلاةِ إِنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا))، وقد أمن الناس؟ فقال لي عمر رضي الله تعالى عنه: عجبت مما عجبت منه، فسألت رسول الله ﷺ عن ذلك فقال: صدقة تصدق الله بها عليكم فاقبلوا صدقته)، (صدقة) يعني: حكم ثابت مستمر.
وروى أبو بكر بن أبي شيبة عن أبي حنظلة الحذاء قال: (سألت ابن عمر عن صلاة السفر فقال: ركعتان، فقلت: أين قوله: ((إِنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا)) ونحن آمنون؟ فقال: سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم).
وروى ابن مردويه عن أبي الوداك قال: (سألت ابن عمر عن ركعتين في السفر فقال لي: هي رخصة نزلت من السماء فإن شئتم فردوها)، يعني: هل من الأدب أن تردوها على الله سبحانه وتعالى، فهذا يدل على أن القصر المذكور في الآية هو القصر في عدد الركعات، وأن ذلك كان مفهوماً عندهم بمعنى الآية.
قالوا: ومما يدل على أن لفظ القصر كان مخصوصاً في عرفهم بنص عدد الركعات، يعني: ((وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلاةِ)) عرف لدى الصحابة أن كلمة ((تَقْصُرُوا)) تطلق على قصر العدد في الصلاة، وهذه اللغة هي التي تعارفوا عليها رضي الله تعالى عنهم أجمعين، ولذلك لما صلى النبي ﷺ الظهر ركعتين قال له ذو اليدين: (أقصرت الصلاة أم نسيت؟) لأنه صلى الأربع اثنتين.
هناك مذهب آخر في هذه الآية لبعض السلف وهو: أن هذه الآية ليست في صلاة القصر في السفر وإنما هي في صلاة الخوف، فيكون المقصود بالقصر في قوله: (أن تقصروا من الصلاة) ليس قصر كمية عددية وإنما قصر كيفية كما رخص ذلك في السفر، وكما سيأتي إن شاء الله تعالى؛ لأن كمية صلاة السفر ركعتان، فهي باقية على ما كانت عليه في الأصل، حيث إن الصلاة كانت ركعتين في الأصل، فأقرت في السفر وزيدت في الحضر، فإذاً هي باقية على ما هي عليه، وهذا مذهب عمر.
قال: ولهذا قال تعالى: ((إِنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا))، وقال بعدها: ﴿وَإِذَا كُنتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلاةَ فَلْتَقُمْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ مَعَكَ﴾ [النساء: ١٠٢] إلى آخر الآية، فأوجز في الآية الأولى وأشار إلى مشروعية صلاة الخوف، ثم بين المقصود من القصر هنا وهو قصر الكيفية، وذكر صفته وكيفيته.


الصفحة التالية
Icon