تفسير قوله تعالى: (ومن يهاجر في سبيل الله يجد في الأرض مراغماً كثيراً وسعة)
قال تبارك وتعالى: ﴿وَمَنْ يُهَاجِرْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يَجِدْ فِي الأَرْضِ مُرَاغَمًا وَمَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ مُهَاجِرًا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا﴾ [النساء: ١٠٠].
قوله تعالى: ((وَمَنْ يُهَاجِرْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يَجِدْ فِي الأَرْضِ مُرَاغَمًا))، يقول السيوطي: مهاجراً.
((كَثِيرًا وَسَعَةً)) في الرزق.
((وَمَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ مُهَاجِرًا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ))، في الطريق كما وقع لـ جندع بن ضمرة.
((فَقَدْ وَقَعَ)) ثبت ((أَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ)).
((وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا)).
يقول القاسمي رحمه الله تعالى: ((وَمَنْ يُهَاجِرْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ)) يعني: في طاعة الله عز وجل، ((يَجِدْ فِي الأَرْضِ مُرَاغَمًا)) أي: طريقاً يراغم فيه أنوف أعدائه القاصدين إدراكه، ((كَثِيرًا وَسَعَةً)).
وفسرها السيوطي كما رأينا ((مُرَاغَمًا)) أي: مهاجراً، ولا تعارض؛ لأن المقصود بأنه سيجد سبيلاً وطريقاً أو مأوىً يستطيع فيه أن يراغم أعداء الله تبارك وتعالى.
وقد ذكرنا من قبل في عدة مناسبات أن الله سبحانه وتعالى يحب من وليه أن يغيظ عدوه، بأن يلزم طاعته تبارك وتعالى فيكون أقوى وأعز من أعداء الله تبارك وتعالى، كما قال تبارك وتعالى: ﴿وَلا يَطَئُونَ مَوْطِئًا يَغِيظُ الْكُفَّارَ وَلا يَنَالُونَ مِنْ عَدُوٍّ نَيْلًا إِلَّا كُتِبَ لَهُمْ بِهِ عَمَلٌ صَالِحٌ﴾ [التوبة: ١٢٠]، كذلك قال تبارك وتعالى: ﴿يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ﴾ [الفتح: ٢٩].
والنبي ﷺ سمى سجدتي السهو: (المرغمتين)؛ لأنهما ترغمان أنف الشيطان وتغيظانه.
قوله: ﴿يَجِدْ فِي الأَرْضِ مُرَاغَمًا كَثِيرًا﴾ أي: يجد مكاناً يستطيع فيه أن يقيم دينه ويظهره ويغيظ أعداءه الذين يقصدون أن يدركوه ويردوه عن هجرته، أو عن طاعته لله سبحانه وتعالى.
((كَثِيرًا وَسَعَةً)) أي: في الرزق، أو سعة في إظهار الدين، أو سعة وانشراحاً في الصدر؛ لأن خوفه يتبدل أمناً إذا هاجر من بين ظهراني المشركين.
((وَمَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ مُهَاجِرًا))، أي: من مكة.
((إِلَى اللَّهِ)) أي: إلى طاعة الله أو إلى مكان أمر الله بالهجرة إليه.
((وَرَسُولِهِ)) أي: إلى رسوله صلى الله عليه وسلم، يعني: بالمدينة.
((ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ)) يعني: في الطريق قبل أن يصل إلى المقصد.
((فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ)) يعني: فقد ثبت أجره على الله سبحانه وتعالى، ولا يستغرب هنا أن نفسر قوله تعالى: ((وَمَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ)) يعني: من مكة، ((مُهَاجِرًا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ)) يعني: للمدينة؛ لأن الهجرة في حياة النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم هكذا كانت، يعني: من مكة إلى المدينة أو من خارج المدينة إلى المدينة.
((فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ)) يعني: فلا يخاف فوات أجره الكامل؛ لأنه لم يكن فقط يتمنى أماني أو أحلام يقظة وإنما هو نوى وجزم وعزم، ثم تحرك وخرج من بيته بنية الهجرة إلى الله سبحانه وتعالى، فمثل هذا يثاب ثواباً كاملاً؛ لأنه نوى وشرع أيضاً في العمل.
أما عدم إتمام العمل بسبب إدراك الموت إياه في الطريق مثلاً فهذا ليس تقصيراً منه إذا لم يتم العمل، لكن كان عليه أن يسعى والتمام على الله سبحانه وتعالى.
((وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا)) سيغفر له ما فرط منه من الذنوب التي من جملتها القعود عن الهجرة إلى وقت الخروج، ويرحمه الله بإكمال ثواب هجرته.