الأحكام التفصيلية في قوله تعالى: (فترى الذين في قلوبهم مرض يسارعون فيهم)
ثم بين تبارك وتعالى كيفية توليهم، وأشعر بسببه، وبما يئول إليه أمره كل من يقع في هذه الصفة المهلكة، وهي موالاة الكفار، فالآيات التالية توضح صورة الموالاة وكيفيتها أولاً، وتوضح سببها ثانياً، وتوضح عاقبتها ثالثاً.
فقال عز وجل: ((فَتَرَى الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ)) فلا يقع في هذه الموالاة ويفرح بها وينافح عنها إلا الذي في قلبه دخن ومرض وشك وشبهة والعياذ بالله! (فترى الذين في قلوبهم مرض) أي: نفاق وشك في وعد الله لإظهار دينه، فعندما يسمعون وعد الله عز وجل بقوله: ﴿هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ﴾ [التوبة: ٣٣] يكون عندهم شك ونفاق ولا يصدقون وعد الله عز وجل، ويظن أحدهم بالله ظن السوء، ويحس أن الله سبحانه وتعالى سيترك الباطل دائماً مرتفع الكلمة على الحق، وأن الحق يكون مقموعاً، لكن الأيام دول، فيوم لك ويوم عليك، وسنة الله سبحانه وتعالى أن يدال الناس: ﴿وَتِلْكَ الأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ﴾ [آل عمران: ١٤٠] فترى الذي في قلبه مرض يوالي أعداء الأمة وأعداء الدين وأعداء المسلمين، بحيث إذا لم تتحقق بشائر نصرة الدين، ولم تكن الكفة في صف المسلمين فإنه يكون قد احتاط لنفسه واتخذ عند هؤلاء جميلاً أو صنيعة تنفعه في يوم من الأيام إذا خسر المسلمون الجولة.
فقوله تعالى: ((فَتَرَى الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ)) يعني: نفاق وشك في وعد الله لإظهار دينه.
((يُسَارِعُونَ فِيهِم)) فالأمر فيه مسابقة، كما حصل من بعض دول الخليج التي كانت تتسابق على الارتماء في أحضان إسرائيل، حتى إن رئيس الوزراء اليهودي قال: ما هذا الذي يفعله العرب؟! فهم أنفسهم استنكروا هذا التهافت على تدعيم العلاقات مع إسرائيل وغير ذلك، فكان بين بعض دول الخليج تسابق نتيجة الصراعات التي بينهم، يريدون من أن يحتموا باليهود ويكون لهم منعة.
حتى قال بعض الناس: إننا كنا طلبنا منذ مدة بعيدة من إسرائيل أن تنضم إلى جامعة الدول العربية.
فاليهود لما علموا بهذا الاقتراح قالوا: لا يوجد شيء اسمه جامعة الدول العربية، فنحن سنعمل نظاماً آخر حتى إنهم -أيضاً- صار يتحكمون في هذا الأمر.
فهذا نموذج مما نراه، (فترى الذين في قلوبهم مرض يسارعون فيهم)، وبعضهم لا يرتمي في أحضان إسرائيل فحسب، بل يضع جبهته تحت أقدام إسرائيل وتحت التراب الذي تدوس عليه إسرائيل، ذلة ما بعدها ذلة، والعياذ بالله! هذا هو واقع المسلمين الآن ولا حول ولا قوة إلا بالله، فهذا من صور الضعف والهوان عند المسلمين، فترى أهل المرض (يسارعون فيهم) يعني: في مودتهم في الباطن والظاهر، من غير أن ينظروا إلى العواقب التي تترتب على ذلك.
(يقولون) يعني: وهم يعتذرون عن هذا الفعل.
فإذا قيل لهم: لماذا تسارعون هكذا وتتسابقون في موالاة الكفار يقولون معتذرين عن هذا الفعل: (نخشى أن تصيبنا دائرة) أي: من دوائر الزمان، وصرف من صروفه، فتكون الدولة لهم فنحتاج إليهم، فنحن نحذر من شرهم.
ولا يفكرون بأن الدائرة ربما تصيب هؤلاء الذين يوالونهم، والدائرة من الصفات الغالبة التي لا يذكر معها موصوفها، وأصلها الخط المحيط بالسطح، واستعيرت لنوائب الزمان لملاحظة إحاطتها واستعمالها في المكروه، وعكس الدائرة الدولة، والدولة هي الغلبة، وقد تستعمل الدولة بمعنى الدائرة، لكن ذلك قليل.
ثم رد الله تعالى عللهم الباطلة، وقطع أطماعهم الفارغة، وبشر المؤمنين بالظفر، فقال عز وجل: (فعسى الله أن يأتي بالفتح أو أمر من عنده) يعني: إن كانوا هم يسارعون فيهم، ويبررون ذلك أو يعتذرون بأنهم يقولون: نخشى أن تصيبنا دائرة فقد قطع الله سبحانه وتعالى هذا العذر بقوله: ((فَعَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ)) فتكون الدائرة -دائرة السوء- على هؤلاء الذين تحبونهم وتوالونهم، وتفتضحون حينئذٍ.
(فعسى الله أن يأتي بالفتح) سواءٌ أكان المقصود فتح مكة، أم فتح قرى اليهود من خيبر وفدك، أم القضاء الفصل بنصرة رسول الله ﷺ على أعدائه وإظهار المسلمين.
فقوله: (فعسى الله أن يأتي بالفتح أو أمر من عنده) يعني: يقطع شأفة اليهود ويجليهم عن بلادهم.
(فيصبحوا على ما أسروا في أنفسهم نادمين) الواو تعود إلى المنافقين الذين في قلوبهم مرض، وهم هؤلاء الذين يسارعون في مودتهم، (فيصبحوا على ما أسروا في أنفسهم) وما الذي أسروه في أنفسهم؟ إنه الشك في ظهور الإسلام، أو أسروا في أنفسهم النفاق.
وقوله: (نادمين) لافتضاحهم بالنفاق مع الفريقين، فلا يرضى عنهم هؤلاء، ولا يرضى عنهم هؤلاء، فلا يبقون مع المسلمين بعدما يفتضحون، ولا والاهم ولا نصرهم اليهود، بل ندموا لافتضاحهم بالنفاق مع الفريقين.
وتعليق الندامة بما كانوا يكتمونه من نوعية موالاة الكفار، أي: كانوا يظهرون موالاة الكفار، والله عز وجل قال هنا: (فيصبحوا على ما أسروا في أنفسهم نادمين)؛ لأن السبب الحقيقي الذي أدى بهم إلى موالاة الكفار -وهو الأمر الظاهر- وجود المرض في قلوبهم، وتأمل هذا جيداً، حيث قال تعالى: ((فَعَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ أَوْ أَمْرٍ مِنْ عِنْدِهِ فَيُصْبِحُوا)) ولم يقل تعالى: (فيصبحوا على ما فعلوا)، فتشمل الآية ما أبطنوه وما أظهروه، فهم أظهروا موالاة الكفار وأبطنوا الشك والنفاق في وعد الله بنصرة رسوله وعزة دينه.
فالذي في قلوبهم هو الشك بوعد الله، والشك في أن المستقبل والنصرة للإسلام، هذا السبب القلبي انعكس على مواقفهم الظاهرة في موالاة الكفار، فالله سبحانه وتعالى في هذا الموضع علق ندامتهم على ما كانوا يكتمونه لا على ما كانوا يظهرونه، فما الذي كانوا يكتمونه؟ إنه الشك والنفاق؛ لأن الشك هو منبع المشكلة الذي كان يحملهم على الموالاة ويغريهم بها، فدل ذلك على ندامتهم عليها بأصلها، وسببها الذي هو ما أسروه في أنفسهم من الشك.
وقوله تعالى: (ويقول الذين آمنوا) قرى الفعل (يقول) بالنصب عطفاً على (أن يأتي) في الآية المتقدمة، أي: وعسى أن يقول الذين آمنوا.
فتكون بالنصب، وقرئ بالرفع على أنه كلام مبتدأ مستأنف.
فقوله تعالى: ((وَيَقُولُ الَّذِينَ آمَنُوا)) أي: ويقول الذين آمنوا في ذلك الوقت حين يصبح المنافقون على ما أسروا في أنفسهم نادمين.
وقول المؤمنين قد يكون المراد به أنه يقوله بعضهم لبعض اغتباطاً وسعادة وفرحاً، وتعجباً من حال المنافقين، واغتباطاً بما من الله عليهم من التوفيق في الإخلاص وعدم الشك والنفاق.
((أَهَؤُلاءِ الَّذِينَ أَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ)) أي: حلفوا لكم بأغلظ الأيمان.
((إِنَّهُمْ لَمَعَكُمْ)) كانوا يحلفون بأغلظ الأيمان إنهم لمعكم لأن عادة المنافقين الاستجنان بالأيمان الكاذبة، واتخاذ الأيمان والحلف جنة ووقاية، كما قال عز وجل: ﴿اتَّخَذُوا أَيْمَانَهُمْ جُنَّةً فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ﴾ [المجادلة: ١٦] فقوله: (جنة) يعني: وقاية، حتى يخدعوا المؤمنين فلا يعاملوهم على ما هم عليه في الحقيقة من النفاق، فيقولون: والله العظيم إننا لكذا، والله العظيم ما نريد إلا كذا إلى آخر ذلك.
ومعنى قولهم: ((إِنَّهُمْ لَمَعَكُمْ)) أي: أولياؤكم ومعارضوكم على الكفار.
وهذا القول الصادر من المؤمنين إما أن يكون المراد به أنه يقوله بعضهم لبعض، وإما أنهم يقولون هذا الكلام لليهود، يقولون لهم: أيها اليهود! أهؤلاء المنافقون الذين هربوا وخذلوكم الآن بعدما أذلكم الله، بعد أن أقسموا بالله جهد أيمانهم إنهم لمعكم؟! وهناك آية أخرى في القرآن تعطي نفس المعنى في سورة الحشر، قال تعالى: ﴿أَلَمْ تَر إِلَى الَّذِينَ نَافَقُوا يَقُولُونَ لِإِخْوَانِهِمُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَئِنْ أُخْرِجْتُمْ لَنَخْرُجَنَّ مَعَكُمْ وَلا نُطِيعُ فِيكُمْ أَحَدًا أَبَدًا وَإِنْ قُوتِلْتُمْ لَنَنْصُرَنَّكُمْ﴾ [الحشر: ١١] فقولهم (لننصرنكم) قسم تقديره: والله لننصرنكم يقول تعالى ﴿وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ * لَئِنْ أُخْرِجُوا لا يَخْرُجُونَ مَعَهُمْ وَلَئِنْ قُوتِلُوا لا يَنْصُرُونَهُمْ وَلَئِنْ نَصَرُوهُمْ لَيُوَلُّنَّ الأَدْبَارَ ثُمَّ لا يُنْصَرُونَ﴾ [الحشر: ١١ - ١٢].
فهنا يقول المؤمنون: أرأيتم -أيها اليهود- كيف حال هؤلاء المنافقين الذين فضحهم الله؟! إذاً: التفسير الأول: يقول المؤمنون بعضهم لبعض تعجباً من حال المنافقين وامتناناً وغبطة بما من الله عليهم من التوفيق في الإخلاص والنجاة من الريب والنفاق.
هذا القول الأول.
أو أن الذين آمنوا يعودون إلى اليهود ويقولون لهم: أرأيتم -أيها اليهود- هؤلاء المنافقين الذين كانوا يحلفون لكم إنهم لمعكم كيف خذلوكم وكيف أذلهم الله؟! فالتفسير الثاني أنهم يقولونه لليهود؛ لأنهم حلفوا لهم على المعاضدة والمناصرة، كما حكى الله عنهم قولهم: ﴿وَإِنْ قُوتِلْتُمْ لَنَنْصُرَنَّكُمْ﴾ [الحشر: ١١].
فيقول المؤمنون لهم: انظروا -أيها اليهود- أهؤلاء الذين أقسموا بالله جهد أيمانهم إنهم لمعكم؟! لقد تباعدوا عنكم.
فيظهر أنهم لم يكونوا مع المؤمنين ولا مع اليهود، فهذا هو المقصود بأن الله سبحانه وتعالى سيفضحهم، ويذلون على أيدي المؤمنين من جهة، وعلى أيدي أعداء الدين الذين والوهم من جهة أخرى.
وعلى ذلك إما أن يكون باقي الآية من تمام كلام المؤمنين وإما أنه من الله سبحانه وتعالى.
يقول تعالى: ((حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فَأَصْبَحُوا خَاسِرِينَ)) في الدنيا إذ ظهر نفاقهم عند الكل، وفي الآخرة إذ لم يبق لهم ثواب؛ لأن الذي حبط عمله يأتي في الآخرة خاسراً لا خلاق له، ولا شيء في ميزان حسناته.
قال الزمخشري: هذه الجملة من قول المؤمنين، أي: بطلت أعمالهم التي كانوا يتكلفونها في رأي أعين الناس.
وفيه معنى التعجب، كأنه قيل: ما أحبط عملهم! ما أخسرهم! أو أن قوله: (حبطت أعمالهم) من كلام الله شهادة لهم بحبوط الأعمال، وتعجيباً من س


الصفحة التالية
Icon