تفسير قوله تعالى: (ما المسيح ابن مريم إلا رسول قد خلت من قبله الرسل)
﴿مَا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ كَانَا يَأْكُلانِ الطَّعَامَ انظُرْ كَيْفَ نُبَيِّنُ لَهُمُ الآيَاتِ ثُمَّ انظُرْ أَنَّى يُؤْفَكُونَ﴾ [المائدة: ٧٥].
قول تعالى: (ما المسيح) يعني: ليس المسيح المعلوم كونه حادثاً مخلوقاً.
ونلاحظ القرآن الكريم أنه يوصف المسيح بأنه ابن مريم في سياق الرد على النصارى، لأنه ليس له أب عليه السلام، وهذا ليس فيه شيء، فليس هو مستغرباً في قدرة الله سبحانه وتعالى؛ لأن الله سبحانه وتعالى نوع مظاهر قدرته العظيمة، فخلق آدم بلا رجل وبلا امرأة، وخلق حواء من رجل بلا امرأة؛ لأنها خلقت من ضلع آدم عليه السلام، وخلق المسيح من امرأة بلا رجل، وخلق سائر البشر من رجل وامرأة، فهذا فيه بيان تنوع قدرة الله سبحانه وتعالى على الخلق، فهو آية من آيات الله سبحانه وتعالى، فمن أعجز في خلقه: المسيح أم آدم عليها السلام؟! فآدم خلق من تراب، لا من رجل ولا من امرأة، كما حكى الله عز وجل في القرآن الكريم: ﴿كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ﴾ [آل عمران: ٥٩].
فهنا يقول الله عز وجل: ((مَا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ)) يعني: ما المسيح الذي هو ابن مريم.
ومعنى (ابن مريم) أنه حادث ومخلوق، ولا يصلح أن يكون خالقاً.
فقوله: ((مَا الْمَسِيحُ)) أي: المعلوم حدوثه من كونه ابن مريم بالخوارق الظاهرة على يديه: ﴿إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ﴾ أي: مضت من قبله الرسل الذين كانوا أصحاب الخوارق الباهرة، فله أسوة أمثاله، فإذا كان أجرى الله سبحانه وتعالى بعض المعجزات على يديه فقد أجراها على يدي موسى، وأجرى كثيراً من المعجزات والآيات على يدي موسى، وعلى يدي إبراهيم عليه السلام وغيرهما من الأنبياء والرسل، كما قال تعالى في الآية الأخرى: ﴿إِنْ هُوَ إِلَّا عَبْدٌ أَنْعَمْنَا عَلَيْهِ وَجَعَلْنَاهُ مَثَلًا لِبَنِي إِسْرَائِيلَ﴾ [الزخرف: ٥٩] أنعم الله عليه بأن أجرى على يديه هذه المعجزات، أي: ما هو إلا رسول من جنس الرسل الذين خلوا قبله، جاء بآيات من الله كما أتوا بأمثالها، فإذا كان قد أبرأ الله الأبرص وأحيا الموتى على يده فقد أحيا العصا وجعلها حية تسعى، وفلق بها البحر على يد موسى وهو أعجب، وإن خلقه من غير أب فقد خلق آدم من غير أب ولا أم، وهو أغرب منه.
وفي الآية وجه آخر في قوله تعالى: ((مَا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ)) يعني: مضت من قبله الرسل، فهو يمضي مثلهم، فمعنى ذلك أنه حادث ومتصف بما ينافي صفات الألوهية.
((وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ)) مبالغة في الصدق، ووقع اسم الصديقة عليها لقوله تعالى: ﴿وَصَدَّقَتْ بِكَلِمَاتِ رَبِّهَا وَكُتُبِهِ وَكَانَتْ مِنَ الْقَانِتِينَ﴾ [التحريم: ١٢].
والوصف بتحري الصدق والمبالغة فيه مشعر بالإغراق في العبودية والقيام بمراتبها، فمن أين لهم أن يصفوها بما يباين وصفها؟! فإذا كانت كلمة (الصديقة) تعبير عن المبالغة في عبوديتها لله فأنى لهؤلاء أن يزعموا أنها إله؟! دلت الآيات على أن مريم عليها السلام ليست بنبية كما زعمه ابن حزم وغيره ممن ذهب إلى نبوة سارة أم إسحاق، ونبوة أم موسى، ونبوة أم عيسى استدلالاً منهم بخطاب الملائكة لـ سارة ومريم، وبقوله: ﴿وَأَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّ مُوسَى أَنْ أَرْضِعِيهِ﴾ [القصص: ٧]، وهذا معنى النبوة، والذي عليه الجمهور أن الله لم يبعث نبياً إلا من الرجال، قال تعالى: ﴿وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ إِلَّا رِجَالًا نُوحِي إِلَيْهِمْ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى﴾ [يوسف: ١٠٩].
وقد حكى الأشعري رضي الله عنه الإجماع على ذلك.
قوله تعالى: ((كَانَا يَأْكُلانِ الطَّعَامَ)) استئناف مبين لما قبله من أنهما كسائر البشر في الافتقار إلى الغذاء، فكل منهما إنسان يأكل؛ لأنه يحتاج إلى الطعام، ويعاني من الجوع والعطش فيحتاج إلى الطعام، وفيه تبعيد عمَّا نسب إليهما.
قال الزمخشري: لأن من احتاج إلى الاغتذاء بالطعام وما يتبعه من الهضم والنفض لم يكن إلا جسماً مركباً من لحم وعظم وعروق وأعصاب وأخلاط وأمزجة مع شهوة وقرم وغير ذلك، مما يدل على أنه مصنوع مؤلف مدبر كغيره من الأجسام.
فكل هذه الأجهزة في الجسم لها وظائف، فمن الذي يجري هذه الوظائف على الحقيقة في بدن الإنسان؟ إنه الله سبحانه وتعالى، فوجود هذه الأجهزة معناه أنه إنسان مدَّبر، وهناك غيره يدبره، وهو الله سبحانه وتعالى، فأنى يكون من هذا حاله إلهاً كما يزعمون؟! ويقول القاسمي هنا: إنما أخر في الاستدلال على بطلان مذهب النصارى حاجتهما للطعام عمَّا قبله من مساواتهما للرسل عليهم السلام ترقياً في باب الاستدلال من الجلي للأجلى.
يعني: هذا الدليل جعل في آخر الأدلة على إبطال مذهب النصارى لعنهم الله، وهذا من باب الترقي في الاستدلال من الجلي إلى ما هو أجلى وأوضح، على ما هو موجود في القاعدة في سوق البراهين لإلزام الخصم، فالإنسان إذا كان يناظر خصماً فإنه يعطي برهاناً جلياً، فإذا لم ينقد للبرهان الجلي الواضح البين فإنك تعطيه ما هو أجلى وأوضح، وفي هذا تعريض بغباوته بأنه غبي لا يفهم، فلذلك تأتي بأشياء من أوضح ما تكون، فالترقي هو من مسالك المناظرة.
يقول: ترقياً في باب الاستدلال من الجلي للأجلى.
فالجلي الذي مضى سالفاً هو قوله تعالى: ((مَا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ)) وهذا دليل في حد ذاته، فإن عيسى بن مريم مركب؛ لأنه حادث ومخلوق، وهو ينسب لأمه مريم عليهما السلام، فما هو إلا رسول قد خلت ومضت من قبله الرسل، فإذا كان يمضي فمعناه أنه مدبر، ومعناه أنه يجري عليه ما يجري على البشر، فليس إلهاً.
ثم أتى بعد ذلك بقوله: ((وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ كَانَا يَأْكُلانِ الطَّعَامَ)) يقول: على ما هي القاعدة في سوق البراهين لإلزام الخصم، حتى إذا لم يسلم في الجلي لغموضه عليه يورد له الأجلى تعريضاً بغباوته، فيضطر للتسليم إن لم يكن معانداً ولا مكابراً، كما وقع في مناظرة إبراهيم عليه السلام: ﴿أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَاجَّ إِبْرَاهِيمَ فِي رَبِّهِ أَنْ آتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ إِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ قَالَ أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ﴾ [البقرة: ٢٥٨]، فمثل الكافر بشيء في غاية الضعف فقال: (قال أنا أحيي وأميت) فإبراهيم عليه السلام لم ينتقد هذا الاستدلال عنده، ولكنه انتقل إلى ما هو أجلى وأوضح فقال: ﴿فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ الْمَغْرِبِ فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ﴾ [البقرة: ٢٥٨].
قوله تعالى: ((انظُرْ كَيْفَ نُبَيِّنُ لَهُمُ الآيَاتِ)) يدعو الله سبحانه وتعالى رسوله محمداً ﷺ إلى أن يتعجب من غباوة القول (انظر كيف نبين لهم الآيات)، انظر إلى كل هذه الآيات السابقة! انظر كيف نبين لهم الآيات والأدلة على الوحدانية وعلى توحيد الله، وعلى بطلان الاتحاد وإلهية عيسى وأمه وبطلان شبهاتهم.
(ثم انظر) يعني: مع ذلك (أنى يؤفكون) أي: كيف يصرفون عن التأمل فيها إلى الإصرار على التمسك بالشبهات الظاهرة البطلان.
وتكرير الأمر بالنظر للمبالغة في التعجب من حال الذين يدعون لهم الربوبية ولا يرعوون عن ذلك، بعدما بين لهم حقيقة حالهما بياناً لا يحوم حوله شائبة ريب، ثم لإظهار ما بين العجبين من التفاوت، أي: إن بياننا للآيات أمر بديع في بابه، بالغ لأقاصي الغايات القاصية من التحقيق والإيضاح، وإعراضهم عنها مع انتفاء ما يصححه بالمرة لما يوجب قبولها أعجب وأبدع، فهنا أمر بالتعجب بعد التعجب، يقول تعالى: ((انظُرْ كَيْفَ نُبَيِّنُ لَهُمُ الآيَاتِ ثُمَّ انظُرْ أَنَّى يُؤْفَكُونَ)) تعجب ثم تعجب من موقفهم من هذا الحق!