الأدلة الواردة في بيان أن النبي ﷺ قد بلغ البلاغ التام
هنا بعض التنبيهات: أولها: أنه لا خفاء في أن النبي ﷺ قد بلغ البلاغ التام، وقام به أتم القيام، وثبت في الشدائد وهو مطلوب، وصبر على البأساء والضراء وهو مكروب محروب، وقد لقي بمكة من قريش ما يشيب النواصي ويهز الصياصي، وهو مع الضعف يصابر صبر المستعلي، ويثبت ثبات المستولي، ثم انتصب لجهاد الأعداء وقد أحاطوا بجهاته، وأحدقوا بجنباته، وصار بإتقانه في الأعداء محذوراً، وبالرعب منه منصوراً، حتى أصبح سراج الدين وهاجاً، ودخل الناس في دين الله أفواجاً.
روى البخاري ومسلم وغيرهما عن أم المؤمنين عائشة رضي الله تعالى عنها أنها قالت لـ مسروق: (من حدثك أن محمداً كتم شيئاً مما أنزل الله عليه فقد كذب، والله يقول: ((يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ)).
وفي الصحيحين عنها -أيضاً- أنها قالت: (لو كان محمد ﷺ كاتماً شيئاً من القرآن لكتم هذه الآية: ﴿وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللَّهُ مُبْدِيهِ وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَاهُ﴾ [الأحزاب: ٣٧]).
وروى البخاري وغيره عن أبي جحيفة قال: قلت لـ علي بن أبي طالب رضي الله عنه: (هل عندكم شيء من الوحي مما ليس في القرآن؟ فقال: لا والذي فلق الحب وبرأ النسمة، إلا فهماً يعطيه الله رجلاً في القرآن، وما في هذه الصحيفة.
قلت: وما في هذه الصحيفة؟ قال: العقل، وفكاك الأسير، وأن لا يقتل مسلم بكافر) يعني أن هذه كانت مدونة ومكتوبة، وقال البخاري: قال الزهري: من الله الرسالة، وعلى الرسول البلاغ، وعلينا التسليم.
يقول الحافظ ابن كثير رحمه الله تعالى: وقد شهدت له ﷺ أمته بإبلاغ الرسالة، وأداء الأمانة، واستنطقهم بذلك في أعظم المحافل في خطبته يوم حجة الوداع، وقد كان هناك من أصحابه نحواً من أربعين ألفاً، كما ثبت في صحيح مسلم عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله قال في خطبته يومئذ في حجة الوداع: (يا أيها الناس! إنكم مسئولون عني، فما أنتم قائلون؟، وذلك كما قال تعالى:)، ﴿فَلَنَسْأَلَنَّ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ وَلَنَسْأَلَنَّ الْمُرْسَلِينَ﴾ [الأعراف: ٦] فهذه الأمة سوف تسأل: هل أبلغكم رسول الله ﷺ رسالة ربه؟ فيقول عليه الصلاة والسلام: (إنكم مسئولون عني، فما أنتم قائلون؟ قالوا: نشهد أنك قد بلغت وأديت ونصحت.
فجعل يرفع يده إلى السماء وينكسها إليهم، ويقول: اللهم! هل بلغت؟).
وروى الإمام أحمد عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما قال: قال رسول الله ﷺ في حجة الوداع: (يا أيها الناس! أي يوم هذا؟! قالوا: يوم حرام.
قال: أي بلد هذا؟! قالوا: بلد حرام.
قال: فأي شهر هذا؟! قالوا: شهر حرام.
قال: فإن أموالكم ودماءكم وأعراضكم عليكم حرام كحرمة يومكم هذا في بلدكم هذا في شهركم هذا.
ثم أعادها مراراً، ثم رفع إصبعيه إلى السماء، فقال: اللهم! هل بلغت؟ مراراً) قال ابن عباس: والله إنها لوصية إلى ربه عز وجل.
ثم قال: (ألا فليبلغ الشاهد الغائب، لا ترجعوا بعدي كفاراً يضرب بعضكم رقاب بعض)، وهذا رواه البخاري.
وقد تضمن قوله تعالى: ((وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ)) معجزة كبرى لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فهذه الآية الشريفة هي من معجزات رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فقد قال الإمام الماوردي في كتابه (أعلام النبوة) في الباب الثامن في معجزة عصمته صلى الله عليه وسلم، قال: أظهر الله تعالى لرسوله ﷺ من أعلام نبوته بعد ثبوتها بمعجز القرآن، واستغنائه عما سواه من البرهان، ما جعله زيادة استبصار، يحتج بها من قلت فطنته، ويذعن لها من ضعفت بصيرته، ليكون إعجاز القرآن مدركاً بالخواطر الثاقبة تفكراً واستدلالاً، وإعجاز العيان معلوماً ببداية الحواس احتياطاً واستظهاراً.
يعني أن القرآن الكريم نَوَّع طرق الدلالة على إعجازه، وذلك لاختلاف فهوم الناس ومستوياتهم العلمية والفكرية، وقدراتهم العقلية، فبعض الناس عندهم من القدرات العقلية والثقافة العقلية ما يمكنهم من التدبر في آيات القرآن والتفهم، بحيث يدركون أنه لا يمكن أن يكون له مصدر إلا الله سبحانه وتعالى، وبعض الناس يخاطبون بأمور أخرى هي -أيضاً- تدل على الإعجاز، لكن بطريقة يدركها الذي تضعف فطنته وقدرته، كهذا الوعد بأن الله سبحانه وتعالى يحفظ نبيه عليه الصلاة والسلام من أن يقتله أحد بقوله تعالى: (والله يعصمك من الناس)، فهذه الآية يستوي الجميع في فهمها، بخلاف ما تحتوي عليه من الدلالات على إعجاز القرآن مما يستعصي على عوام الناس أو صفار العقول، ولا يدركه إلا ذوو الفطنة والذكاء العالي.
فيقول هنا: فيكون البليد مقهوراً بوهمه وعيه، واللبيب محجوزاً بفهمه وبيانه؛ لأن لكل فريق من الناس طريقاً هي عليهم أقرب ولهم أجذب، فكان ما جمع مقياد الفرق أوضح سبيلاً وأعم دليلاً، فمن معجزاته عصمته من أعدائه، مع أن هؤلاء الأعداء كانوا جماً غفيراً وعدداً كثيراً، وهم على أتم حنق عليه، وأشد طلباً لنفيه، وهو بينهم مسترسل قاهر، ولهم مخالط ومكاثر، ترمقه أبصارهم شذراً، وترتد عنه أيديهم ذعراً، وقد هاجر عنه أصحابه حذراً.
يعني أنَّ الرسول عليه الصلاة والسلام كان في حالة خطيرة، وأعداء كثيرون جداً محيطون به من كل جانب، والعداوة أشد ما تكون في قلوبهم، ونار الغيظ والحقد والحرص على إيذائه على أشد ما تكون، وهو مع ذلك بينهم مسترسل متحرك يروح ويجيء ويبلغهم، وأصحابه من شدة الاضطهاد الذي تعرضوا له هاجروا، وبقي هو فيهم عليه الصلاة والسلام مع نفر من أصحابه حتى استكمل مدته فيهم ثلاث عشرة سنة، ثم خرج عنهم سليماً لم يكلم في نفس ولا جسد صلى الله عليه وسلم، وما كان ذلك إلا بعصمة إلهية وعده الله تعالى بها فحققها، حيث يقول: ((وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ)) فعصمه منهم.


الصفحة التالية
Icon