تفسير قوله تعالى: (وله ما سكن في الليل والنهار ولا تكونن من المشركين)
قال الله تبارك وتعالى: ﴿وَلَهُ مَا سَكَنَ فِي اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ * قُلْ أَغَيْرَ اللَّهِ أَتَّخِذُ وَلِيّاً فَاطِرِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَهُوَ يُطْعِمُ وَلا يُطْعَمُ قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَسْلَمَ وَلا تَكُونَنَّ مِنْ الْمُشْرِكِينَ﴾ [الأنعام: ١٣ - ١٤].
(وله) تعالى (ما سكن) أي: حل (في الليل والنهار) أي: كل شيء، فهو ربه وخالقه ومالكه، وهو (السميع) لما يقال (العليم) بما يُفعل.
وقوله: (قل أغير الله أتخذ ولياً) أي: قل لهم: (أغير الله أتخذ ولياً) أعبده، والله (فاطر السماوات والأرض) أي: مبدعهما، (وهو يطعم) أي: يرزق، (ولا يطعم) أي: ولا يُرزق، فسيكون الجواب الذي لا جواب غيره هو: لا يصح لي أن أتخذ ولياً غير الله سبحانه وتعالى.
وقوله: (قل إني أمرت أن أكون أول من أسلم) أي: أول من أسلم لله من هذه الأمة، (ولا تكونن) يعني: وقيل لي: (لا تكونن من المشركين به.
يقول القاسمي رحمه الله تعالى: (وله ما سكن في الليل والنهار) وله: أي لله عز وجل، (ما سكن في الليل والنهار) أي: ما استقر وحل، من الاستقرار والحلول؛ لأن السكنى بمعنى الحلول، كقوله تعالى: ﴿وَسَكَنتُمْ فِي مَسَاكِنِ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَنفُسَهُمْ﴾ [إبراهيم: ٤٥]، والمعنى: له تعالى كل ما حصل في الليل والنهار.
يعني: أن كلمة (سكن) هنا ليست من السكون، وهناك قول آخر إنها من السكون، ولكن الأقرب أنها من السكنى.
فقوله: (وله ما سكن في الليل والنهار) يعني: ما حصل في الليل والنهار مما طلعت عليه الشمس أو غربت، فشبَّه الاستقرار في الزمان بالاستقرار في المكان، فاستعمل استعماله فيه، فالسكون هنا من الحلول، يعني: ما حل وسكن واستقر في الليل والنهار من المخلوقات.
فكأن الليل والنهار شبها بمكان يسكن فيه، أو أن (سكن) بمعنى السكون الذي هو مقابل الحركة، يعني: له ما سكن فيهما، وإذا فسرنا قوله تعالى: (وله ما سكن) بالهدوء والسكون فما الذي يقابل السكون؟
ﷺ الحركة، فيكون هذا من باب قوله تبارك وتعالى: ﴿سَرَابِيلَ تَقِيكُمْ الْحَرَّ﴾ [النحل: ٨١] ولم يقل: القر.
ومعروف أن السرابيل تقي الحر، وفي التفسير نقول: والقر، والمراد: تقيكم الحر والبرد، فحذفه من السياق اكتفاءً بظهوره؛ لأن السرابيل تقينا الحر والبرد، فاكتفى بذكر أحدهما عن ذكر الآخر لشهرته وظهوره، فكذلك هنا إذا قلنا: (وله ما سكن) من السكون، ففي التفسير نزيد ونقول: له ما سكن وله ما تحرك، ونقول: اكتفى بذكر أحدهما عن الآخر لظهوره، ولأنه يقابله، والذي يقابل السكون هو الحركة، وهذا يعرف بالقرينة، وإنما اكتفى بالسكون عن ضده دون العكس فلم يقل: وله ما تحرك في الليل والنهار لأن السكون أكثر وجوداً، والنعمة فيه أكثر.
وقال أبو مسلم الأصفهاني: ذكر تعالى في الآية الأولى السماوات والأرض؛ إذ لا مكان سواهما، وفي هذه الآية ذكر الليل والنهار؛ إذ لا زمان سواهما، فالزمان والمكان ظرفان للمحدثات، فأخبر سبحانه أنه مالك للمكان والمكانيات وللزمان والزمانيات، وهذا بيان في غاية الجلالة.
وقوله: (وهو السميع العليم) يعني: يسمع كل مسموع، ويعلم كل معلوم، فما يخفى عليه شيء مما يشتمل عليه الملوان.
ثم قال تعالى: ﴿قُلْ أَغَيْرَ اللَّهِ أَتَّخِذُ وَلِيّاً فَاطِرِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَهُوَ يُطْعِمُ وَلا يُطْعَمُ قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَسْلَمَ وَلا تَكُونَنَّ مِنْ الْمُشْرِكِينَ﴾ [الأنعام: ١٤].
قوله تعالى: (قل) أي: لكفار مكة المكذبين: (أغير الله أتخذ ولياً) يعني: معبوداً، وهذا كقوله تعالى: ﴿قُلْ أَفَغَيْرَ اللَّهِ تَأْمُرُونَنِي أَعْبُدُ أَيُّهَا الْجَاهِلُونَ﴾ [الزمر: ٦٤]، والمعنى: لا أتخذ ولياً إلا الله وحده.
وقوله: (فاطر السماوات والأرض) أي: خالقهما ومبدعهما على غير مثال سابق لهما، و (فاطر) بالجر صفة لاسم الجلالة.
وقوله: (وهو يطعم ولا يطعم)، يعني: يرزق سبحانه وتعالى ولا يُرزق، والمقصود: أن المنافع كلها من عند الله تبارك وتعالى، ولا يجوز عليه الانتفاع؛ لأن الخالق مستغنٍ عن المخلوقين، أي: فيجب اتخاذه ولياً ليُعبد سبحانه وتعالى شكراً على إنعامه، وكفايته الحوائج بلا طلب عِوض، والله عز وجل يمتن علينا بالنعم ليل نهار وفي كل لحظة من اللحظات وفي كل أحوالنا يمنُّ علينا بالنعم التي لا غنى بنا عنها طرفة عين، دون أن يطلب منا مقابلاً لهذه النعم، ويرزقنا عز وجل فينبغي أن لا نعبد غيره شكراً لإنعامه عز وجل.
وقيل المراد بالطعم: الرزق، وهذا معناه اللغوي، وهو: كل ما ينتفع به، بدليل وقوعه مقابلاً له في قوله تعالى: ﴿مَا أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ﴾ [الذاريات: ٥٧]، فالمقصود بالطعم هنا المعنى اللغوي للرزق، وهو: كل ما ينتفع به؛ إذ كل ما ينتفع به يسمى رزقاً.
وقوله: ((قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَسْلَمَ))، أي: أول من أسلم، وكلمة (مسلم) يقدر معها عبارة ولكنها تحذف، فكلمة الإسلام نقدرها معها كلمة (لله)، فقولي: أنا مسلم أصله: أنا مسلم لله، فدائماً كلمة الإسلام ومشتقاتها ترتبط بهذا اللفظ، أي: أنا مسلم لله، أو أسلمت لله، وهذا يلاحظ بالاستقراء في القرآن الكريم، فمن ذلك قوله تعالى: ﴿وَمَنْ أَحْسَنُ دِيناً مِمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ﴾ [النساء: ١٢٥]، وهذا موجود في القرآن كثيراً، وكذلك هنا يقول تعالى: ((قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَسْلَمَ)) أي: أسلم وجهي لله مخلصاً له؛ لأصير متبوعاً للباقين؛ لأنني قدوة وأسوة لباقي الناس، وهذا كقوله: ﴿وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ﴾ [الأنعام: ١٦٣]، يعني: من هذه الأمة، وهذا اللفظ بنفسه موجود في دعاء الاستفتاح في الصلوات، وبعض العلماء يرى أن تبدل كلمة (أول المسلمين) إلى: وأنا من المسلمين، على أساس أنه فهم أن معنى (أنا أول المسلمين)، أي: أول إنسان أسلم لله، وإنما المعنى: أول المسارعين إلى طاعتك؛ لأن أول المسلمين هو آدم عليه السلام، فمعنى (أول المسلمين): أول المسارعين، وهذا تعبير عن المسابقة والمسارعة في طاعة الله عز وجل والأوبة له، إلا إذا أردنا أن (أول المسلمين) يعني: أول المسلمين في هذه الأمة المحمدية.
وقوله: ﴿وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ﴾ [الأنعام: ١٦٣] هو كقول موسى: ﴿سُبْحَانَكَ تُبْتُ إِلَيْكَ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ﴾ [الأعراف: ١٤٣]، أي: أول المؤمنين بأنك لا ترى في الدنيا، وإنما ترى في الآخرة.
وقوله: ((وَلا تَكُونَنَّ مِنْ الْمُشْرِكِينَ)) يعني: وقيل لي: (لا تكونن من المشركين) فهو معطوف على أمرت، يعني: أمرت بالإسلام ونهيت عن الشرك نهياً صريحاً مؤكداً بعد النهي في ضمن الأمر؛ لأنه لا شك في أن الإسلام لله يقتضي النهي عما ينافي الإسلام وهو الشرك، فلم يكتف بذلك، وإنما صرَّح -أيضاً- بالنهي عن الشرك، رغم أن الأمر بالإسلام يقتضي نفي الشرك، لكنه صرح بالنهي زيادة في التأكيد بقوله تبارك وتعالى: (ولا تكونن من المشركين).
ونهي المتبوع نهي للتابعين، ويجوز عطفه على (قل)، وفي الآية إرشاد إلى أن كل آمر ينبغي أن يكون عاملاً بما أمر به؛ لأنه مقتداهم، وقيل: هذه الآية للتحريض، كما يأمر الملك رعيته بأمر ثم يقول: وأنا أول من يفعل ذلك ليحملهم على الامتثال.