تفسير قوله تعالى: (قل لو أن عندي ما تستعجلون به لقضي الأمر والله أعلم بالظالمين)
ثم قال تعالى: ﴿قُلْ لَوْ أَنَّ عِندِي مَا تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ لَقُضِيَ الأَمْرُ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِالظَّالِمِينَ﴾ [الأنعام: ٥٨] قوله تعالى: (قل لو أن عندي ما تستعجلون به) أي: لو أن في قدرتي وإمكاني العذاب الذي تتعجلونه، بأن يكون أمره مفوضاً إليَّ من قبله تعالى لقضي الأمر بيني وبينكم بأن ينزل ذلك عليكم إثر استعجالكم.
و (قضي) هنا بمعنى: قطع.
وقضاؤه كناية عن إهلاكهم، وفي بناء الفعل لما لم يسم فاعله من الإيذان بتعيين الفاعل الذي هو الله تعالى، وتهويل الأمر ومراعاة حسن الأدب، ما لا يخفى.
قوله تعالى: (والله أعلم بالظالمين) اعتراض مقرر لما أفادته الجملة الإمتناعية، من انتفاء كون أمر العذاب مفوضاً إليه صلى الله عليه وسلم، والمعنى: أن الله تعالى أعلم بحال الظالمين وبأنهم مستحقون للإمهال بطريق الاستدراج لتشديد العذاب؛ ولذلك لم يفوض الأمر إليَّ، فلم يقض الأمر بتعجيل العذاب، يعني أن الله أعلم بالظالمين أنهم يستحقون تأجيل العذاب؛ لأنهم كلما تمادوا في كفرهم كلما ازداد استحقاقهم للعقاب، كما قال تعالى: ﴿وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لِأَنْفُسِهِمْ إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُوا إِثْمًا وَلَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ﴾ [آل عمران: ١٧٨]، قال ابن كثير رحمه الله تعالى: فإن قيل: فما الجمع بين هذه الآية: ﴿قُلْ لَوْ أَنَّ عِندِي مَا تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ لَقُضِيَ الأَمْرُ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِالظَّالِمِينَ﴾ [الأنعام: ٥٨] وبين ما ثبت في الصحيحين عن أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها أنها قالت لرسول الله صلى الله عليه وسلم: (يا رسول الله! هل أتى عليك يوم كان أشد من يوم أحد؟ فقال: لقد لقيت من قومك، وكان أشد ما لقيت منهم يوم العقبة، إذ عرضت نفسي على ابن عبد ياليل بن عبد كلال، فلم يجبني إلى ما أردته، فانطلقت وأنا مهموم على وجهي فلم أستفق إلا بقرن الثعالب -وقرن الثعالب هو قرن المنازل ميقات أهل نجد كما هو معروف- فرفعت رأسي فإذا أنا بسحابة قد أظلتني، فنظرت فإذا فيها جبريل فناداني، فقال: إن الله عز وجل قد سمع قول قومك لك، وما ردوا عليك، وقد بعث إليك ملك الجبال لتأمره بما شئت فيهم، قال: فناداني ملك الجبال وسلم عليَّ، ثم قال: يا محمد! إن الله قد سمع قول قومك لك، وأنا ملك الجبال، وقد بعثني ربك إليك لتأمرني بأمرك، فما شئت؟ إن شئت أن أطبق عليهم الأخشبين.
فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: بل أرجو أن يخرج الله من أصلابهم من يعبد الله وحده لا يشرك به شيئاً) وهذا لفظ مسلم، فقد عُرض عليه عذابهم واستئصالهم فاستأناهم وأجَّل ذلك، مع أنه مكَّنه أن يهلكهم بملك الجبال، لكنه استأناهم وأعطاهم مهلة وسأل لهم التأخير لعل الله أن يخرج من أصلابهم من لا يشرك به شيئاً، فكيف يكون الجمع بين هذا الحديث وبين هذه الآية: (قل لو أن عندي ما تستعجلون به لقضي الأمر بيني وبينكم والله عليم بالظالمين)؟! والجواب -والله تعالى أعلم-: أن هذه الآية دلت على أنه لو كان إليه وقوع العذاب الذي يطلبونه حال طلبهم له لأوقعه بهم، أما الحديث فليس فيه أنهم سألوه وقوع العذاب بهم، بل عرض عليه ملك الجبال أنه إن شاء أطبق عليهم الأخشبين -وهما جبلا مكة يكتنفانها جنوباً وشمالاً، فلهذا استأنى بهم وسأل الرفق لهم صلى الله عليه وسلم، فالآية هذه في مقام محاورة، وقد وصل الحوار بين الرسول عليه الصلاة والسلام وبين هؤلاء الكفار إلى أنهم تحدوه بقولهم: لو كنت صادقاً فأنزل علينا العذاب عاجلاً الآن، وفي هذه الحالة جاءت الآية تشير إلى أن الرسول عليه السلام يجيبهم ويقول: (لو أن عندي ما تستعجلون به لقضي الأمر بيني وبينكم) أي: لوقع بكم العذاب فوراً ما دمتم تطلبونه وتسألون تعجيله آية على صدقي.
أما الحديث فليس فيه أن الحوار وصل إلى هذا الحد، وإنما هم ردوا قوله ورفضوا الإيمان به، لكن لم يصل الحوار بينه وبينهم إلى أنهم تحدوه بأن ينزل عليهم العذاب، ولأنهم لم يفعلوا ذلك فإنه ﷺ سأل الله لهم التأخير والتأجيل رجاء أن يخرج الله سبحانه وتعالى من أصلابهم من يعبد الله عز وجل لا يشرك به شيئاً.
وبهذا ينتهي هذا الربع وهو تفسير الربع، الذي يبدأ بقوله: ﴿إِنَّمَا يَسْتَجِيبُ الَّذِينَ يَسْمَعُونَ﴾ [الأنعام: ٣٦].
أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم، سبحانك -اللهم- ربنا وبحمدك، أشهد أن لا إله إلا أنت، أستغفرك وأتوب إليك.