تفسير قوله تعالى: (وكذلك فتنا بعضهم ببعض ليقولوا أهؤلاء من الله عليهم من بيننا)
ثم قال تعالى: ﴿وَكَذَلِكَ فَتَنَّا بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لِيَقُولُوا أَهَؤُلاءِ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنْ بَيْنِنَا أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِالشَّاكِرِينَ﴾ [الأنعام: ٥٣].
قوله: (وكذلك فتنا بعضهم) أي: الشرفاء والسادات، (ببعض) وهم المستضعفون، كما قال تبارك وتعالى: ﴿وَجَعَلْنَا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً أَتَصْبِرُونَ﴾ [الفرقان: ٢٠]، أي: نجعل الضعيف أو الفقير فتنة للغني أو القوي.
فقوله: (وكذلك فتنا بعضهم) أي: الشرفاء، (ببعض) وهم المستضعفون، بما مننا عليهم بالإيمان، مع كونهم ضعفاء وفقراء ومستضعفين مننا عليهم بالإيمان، فكان في ذلك فتنة لهؤلاء الشرفاء، (ليقولوا) أي: ليقول هؤلاء الشرفاء: (أهؤلاء) أي: المستضعفون، (من الله عليهم من بيننا) أي: هل هؤلاء مع ضعفهم وفقرهم يستحقون أن يمن الله عليهم من بيننا بشرف الإيمان؟! مع أن الشرفاء على زعمهم أولى بكل شرف، فلو كان الإيمان شرفاً لانعكس الأمر، ولكان ذلك من خصائصنا نحن حتى نجمع إلى شرف الدنيا شرف الإيمان.
فلذلك كان في إنعام الله عز وجل على المستضعفين بنعمة الإيمان فتنة لهؤلاء الذين ظنوا أنهم أولى بكل شرف، فقولهم: (أهؤلاء من الله عليهم من بيننا) هو إنكار لأن يخص هؤلاء من بينهم بإصابة الحق والسبق إلى الخير، كقولهم: ﴿لَوْ كَانَ خَيْرًا مَا سَبَقُونَا إِلَيْهِ﴾ [الأحقاف: ١١]، وهذا شأنهم دائماً، فإنهم يقولون: لو كان خيراً ما سبقنا إليه هؤلاء المستضعفون، وهذا -بلا شك- عنوان الكبر والبطر وغمط الناس، والخلل في موازينهم.
ثم أشار تعالى إلى أنه إنما منَّ عليهم بنعمة الإيمان لأنه علم أنهم يعرفون قدر هذه النعمة فيشكرونها حق شكرها، وأما أولئك فلا يعرفون قدرها فلا يشكرونها، ولذلك قال عز وجل: (أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِالشَّاكِرِينَ)، أي: أليس الله سبحانه وتعالى بأعلم بالذين إذا أنعم عليهم بنعمة الإيمان والهداية يشكرون له سبحانه وتعالى ويحمدونه حق حمده، ممن يجحدون فضل الله عليهم ولا يشكرون له هذه النعمة؟! إذاً: قول الله تبارك وتعالى: (أليس الله بأعلم بالشاكرين) رد على قول المشركين المستكبرين: (أهؤلاء من الله عليهم من بيننا)، فلما قالوا: (أهؤلاء من الله من بيننا) أتى
ﷺ ( أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِالشَّاكِرِينَ)، فهو رد لقولهم ذلك، وإبطال له، وإشارة إلى أن مدار استحقاق الإنعام هو معرفة شأن النعمة والاعتراف بحق المنعم سبحانه وتعالى، كما أن فيه إشارة إلى أن أولئك المستضعفين عارفون بحق نعم الله تعالى في تنزيل القرآن والتوفيق للإيمان، شاكرون له تعالى على ذلك، مع التعريض بأن القائلين بمعزل عن ذلك كله، وهذا لا يخفى.
قال الحافظ ابن كثير: إن رسول الله ﷺ كان غالب من اتبعه في أول بعثته ضعفاء الناس من الرجال والنساء والعبيد والإماء، ولم يتبعه من الأشراف إلا قليل.
ويتضح هذا في حديث هرقل لما سأل أبا سفيان الأسئلة المعروفة، فإنه قال: أشراف الناس اتبعوه أم ضعفاؤهم؟ فقال: بل ضعفاؤهم.
فقال له هرقل: وكذلك الأنبياء يتبعهم ضعفاء الناس.
أو كما قال.
وكذلك -أيضاً- لما قال قوم نوح لنوح عليه السلام: ﴿وَمَا نَرَاكَ اتَّبَعَكَ إِلَّا الَّذِينَ هُمْ أَرَاذِلُنَا بَادِيَ الرَّأْيِ وَمَا نَرَى لَكُمْ عَلَيْنَا مِنْ فَضْلٍ بَلْ نَظُنُّكُمْ كَاذِبِينَ﴾ [هود: ٢٧].
وكان مشركوا مكة يسخرون بمن آمن من ضعفائهم، ويعذبون من يقدرون عليه منهم، وكانوا يقولون: (أهؤلاء من الله عليهم من بيننا) كقوله تعالى عنهم: (لو كان خيراً ما سبقونا إليه)، فهذا قول الكافرين في أهل الإيمان، لكن أهل الحق وأهل السنة والجماعة يقولون في أي شيء لم يفعله الصحابة رضي الله تعالى عنهم: لو كان خيراً لسبقونا إليه، وهذه قاعدة يتبعها أهل السنة والجماعة في أي قضية من قضايا البدع التي يزعم محدثها أنها تقرب إلى الله سبحانه وتعالى وأن فيها خيراً؛ فإنهم يرفعون هذا الشعار: (لو كان خيراً لسبقونا إليه)؛ لأنهم أولى بكل فضل، أما الكفار فكانوا يقولون: (لو كان خيراً ما سبقونا إليه)، لأنهم يزدرونهم ويحتقرونهم، وهذا كقوله تعالى: ﴿وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ قَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا أَيُّ الْفَرِيقَيْنِ خَيْرٌ مَقَامًا وَأَحْسَنُ نَدِيًّا﴾ [مريم: ٧٣]، فإنهم كانوا يظنون أنه ما دام أنهم أوتوا من الدنيا ومن زينة الدنيا وبهجة المجالس والمظاهر فإنهم -أيضاً- يستحقون أن يفضلهم الله في الدين، وهذا ليس بلازم، فإن الله يعطي الدنيا من يحب ومن لا يحب، ولا يعطي الدين إلا من أحب، فهذه هي القاعدة، بل ربما يُعطى الكافر من الدنيا أضعاف ما يعطاه المؤمن، وربما زيد في بلاء المؤمن، وهذه سنة مطردة، كما قال صلى الله عليه وسلم: (أشد الناس بلاء الأنبياء، ثم الأمثل فالأمثل، يبتلى الرجل على قدر دينه، فإن كان في دينه صلابة -يعني: شدة- زيد في بلائه، وإن كان في دينه رقة ابتلي على حسب دينه)، إلى آخر الحديث المعروف.
ولذلك في هذه الآية الكريمة قال تعالى: (وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ قَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا)، يعني: في حق الذين آمنوا: ﴿أَيُّ الْفَرِيقَيْنِ خَيْرٌ مَقَامًا وَأَحْسَنُ نَدِيًّا﴾ [مريم: ٧٣]، فقال الله عز وجل في جواب ذلك: ﴿وَكَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْنٍ هُمْ أَحْسَنُ أَثَاثًا وَرِئْيًا﴾ [مريم: ٧٤]، فكم أهلك الله سبحانه وتعالى من الظالمين ومن الأمم الظالمة ممن كان عندهم من الزينة والأثاث والمظاهر وحسن المظهر أكثر مما أوتي هؤلاء! وهنا لما قالوا: (أهؤلاء من الله عليهم من بيننا) قال عز وجل في جوابهم: (أليس الله بأعلم بالشاكرين)؟! أي: الشاكرين له بأقوالهم وأفعالهم وضمائرهم، فيوفقهم ويهديهم سبل السلام، ويخرجهم من الظلمات إلى النور بإذنه، ويهديهم إلى صراط مستقيم، كما قال تعالى: ﴿وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ﴾ [العنكبوت: ٦٩]، وفي الحديث الصحيح يقول صلى الله عليه وسلم: (إن الله لا ينظر إلى صوركم ولا إلى أجسادكم، ولكن ينظر إلى قلوبكم وأعمالكم)، وفي نفس الوقت قال تعالى في المنافقين: (وَإِذَا رَأَيْتَهُمْ تُعْجِبُكَ أَجْسَامُهُمْ وَإِنْ يَقُولُوا تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ) لكن: ﴿كَأَنَّهُمْ خُشُبٌ مُسَنَّدَةٌ يَحْسَبُونَ كُلَّ صَيْحَةٍ عَلَيْهِمْ﴾ [المنافقون: ٤]، فلا تغتر بالمظهر؛ إنما العبرة بحقائق الإيمان الراسخة في القلوب.
وروى ابن جرير عن عكرمة قال: جاء عتبة بن ربيعة وشيبة بن ربيعة ومطعم بن عدي والحارث بن نوفل وقرضة بن عبد عمرو بن نوفل في أشراف من بني عبد مناف من الكفار إلى أبي طالب، فقالوا: يا أبا طالب! لو أن ابن أخيك يطرد عنه موالينا وحلفاءنا فإنما هم عبيدنا وعتقاؤنا -جمع عتيق، أي: أجير- كان أعظم في صدورنا، وأطوع له عندنا، وأدنى لاتباعنا إياه وتصديقنا له.
فأتى أبو طالب النبي صلى الله عليه وسلم، فحدثه بالذي كلموه به، فقال عمر بن الخطاب: لو فعلت ذلك حتى تنظر ما الذي يريدون وإلى ما يصيرون من قولهم.
فأنزل الله عز وجل هذه الآية: ﴿وَأَنذِرْ بِهِ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَنْ يُحْشَرُوا إِلَى رَبِّهِمْ لَيْسَ لَهُمْ مِنْ دُونِهِ وَلِيٌّ وَلا شَفِيعٌ َ﴾، إلى قوله: ((أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِالشَّاكِرِينَ)).
قال: وكانوا بلالاً وعمار بن ياسر وسالماً مولى أبي حذيفة وصبيحاً مولى أسيد، ومن الحلفاء ابن مسعود والمقداد بن عمرو ومسعود بن القارئ وواقد بن عبد الله الحنظلي وعمرو بن عبد عمرو وذو الشمالين ومرثد بن أبي مرثد وأشباههم من الحلفاء، ونزلت في أئمة الكفر من قريش والموالي والحلفاء: ﴿وَكَذَلِكَ فَتَنَّا بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لِيَقُولُوا أَهَؤُلاءِ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنْ بَيْنِنَا أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِالشَّاكِرِينَ﴾ [الأنعام: ٥٣]، فلما نزلت أقبل عمر فاعتذر من مقالته، فأنزل الله عز وجل: ﴿وَإِذَا جَاءَكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِنَا فَقُلْ سَلامٌ عَلَيْكُمْ كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ﴾ [الأنعام: ٥٤]، إلى آخر الآيات.
قال بعض المفسرين: ثمرة الآية أن الواجب في الدعاء الإخلاص فيه؛ لأنه تعالى امتدحهم في دعائهم بأنهم (يدعون ربهم بالغداة والعشي يريدون وجهه) فاشترط في الدعاء الإخلاص، أي: أن تريد الله سبحانه وتعالى بدعائك، ولا تريد غير الله سبحانه وتعالى، وهكذا جميع الطاعات لا تكون لغرض الدنيا.
قال محمد بن الحسن النفس الزكية: إذا دعا الإمام ثم وجد أفضل منه وجب عليه أن يسلم الأمر له، فإن لم يفعل ذلك فسق؛ لأنه إن لم يفعل دل على أنه طالب للدنيا.
ودلت الآية على أن الغداة والعشي لهما اختصاص بفضل العمل والدعاء، فلذلك خصهما بالذكر، فقال: (يدعون ربهم بالغداة والعشي)، فلا شك في أن تخصيص وقتي الغداة والعشي بهذا الأمر يدل على مزية لوقتي البكور والعشي، وهذا بلا شك ثابت؛ لأن أشرف أوقات الذكر على الإطلاق في الليل والنهار هما هذان الوقتان: وقت الغداة بعد طلوع الشمس أو بعد طلوع الفجر إلى أن تطلع الشمس، أما وقت العشي فهو من بعد صلاة العصر إلى غروب الشمس، وقيل: من بعد الزوال.
فالمقصود: أن تخصيص هـ


الصفحة التالية
Icon