تفسير قوله تعالى: (أولئك الذين آتيناهم الكتاب والحكم والنبوة)
ثم قال تعالى: ﴿أُوْلَئِكَ الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ فَإِنْ يَكْفُرْ بِهَا هَؤُلاءِ فَقَدْ وَكَّلْنَا بِهَا قَوْمًا لَيْسُوا بِهَا بِكَافِرِينَ﴾ [الأنعام: ٨٩].
قوله: (أولئك)، إشارة إلى المذكورين من الأنبياء الثمانية عشر، والمعطوفين عليهم عطفوا لاستلطافهم بما ذكر من الهداية وغيرها.
وقوله: (أولئك الذين آتيناهم الكتاب)، الكتاب هنا اسم جنس، والكتب هي كثيرة، لكن هنا المقصود جنس الكتاب المتحقق في ضمن أي فرد كان من أفراد الكتب السماوية.
وقوله: (آتيناهم الكتاب)، المقصود بالإيتاء: التفهيم التام لما فيه من الحقائق، والتمكين من الإحاطة بالجلائل والدقائق، وهذا أعم من أن يكون بالانزال ابتداءً أو يالإيغاث إسقاءً، فإن المذكورين لم ينزل على كل واحد منهم كتاب معين.
وقوله: (آتيناهم الكتاب والحكم)، أي: الحكمة، أو فصل الأمر على ما يقتضيه الحق والصواب، (والنبوة)، أي: الرسالة، وقيل: (النبوة)، وإن كانت أعم إلا أن المراد بها ما يشمل الرسالة؛ لأن المذكورين رسل.
ولا تعارض بين قولك: محمد نبي الله ومحمد رسول الله عليه الصلاة والسلام، لكن كلمة النبوة أعم، هذا هو السبب في عدم التعارض؛ لأن النبوة تشمل الرسل، وتشمل غير الرسل، فهي مرتبة أعم، لكن أخص منها مرتبة الرسالة، فلا تعارض، بل بينهما عموم وخصوص، لكن في تفسير هذه الآية إذا أردنا أن نفسر قوله تعالى: (أولئك الذين آتيناهم الكتاب والحكم والنبوة)، فنخص المعنى العام للنبوة بمعنى الرسالة؛ لأن المذكورين كلهم رسل، ولم يقتصروا على مرتبة النبوة.
وقوله: (أولئك الذين آتيناهم الكتاب والحكم والنبوة فإن يكفر بها هؤلاء)، الهاء في قوله: (بها) تعود إلى هؤلاء الثلاثة: الكتاب، والحكم، والنبوة، يعني: بهذه الثلاثة المذكورة.
وقوله: (هؤلاء)، يعني: قريشاً، فإنهم بكفرهم برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وما أنزل عليه من القرآن كافرون لما يصدقه جميعاً، كما هو معروف أن الإيمان حقيقة كلية متركبة من أجزاء، وهذه الأجزاء لا ينفصل بعضها عن بعض، فإذا حبطت واحدة منها حبط جميع الإيمان، يعني: لو أن الإنسان آمن بالله وملائكته وكتبه ورسله، ولكنه كفر باليوم الآخر، والبعث والنشور فإن كل إيمانه يحبط، فيصح أن يوصف -مع أنه يصدِّق بالأنبياء ويصدق بالله- بأنه لا يؤمن باليوم الآخر، ولا يؤمن بالله، ولا بالملائكة، كما قال تعالى: ﴿قَاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلا بِالْيَوْمِ الآخِرِ وَلا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ﴾ [التوبة: ٢٩].
ونحن نعلم أن أهل الكتاب يؤمنون بالبعث وبالنشور، ويؤمنون باليوم الآخر، لكن أطلق عليهم أنهم لا يؤمنون باليوم الآخر؛ لأنهم بكفرهم بمحمد عليه الصلاة والسلام، أو بعيسى -وهذا كان في حق اليهود- فقد كفروا بجميع الأنبياء، لو واحد مسلم آمن بجميع الأنبياء لكنه قال: إلا عيسى، أو إلا يونس، لصار كافراً متساوياً سواء بسواء مع إخوانه في الكفر، فيحبط كل إيمانه، ولو آمن بكل الملائكة ما عدا جبريل فإنه أيضاً يحبط كل إيمانه، ويسمى كافراً خارجاً من ملة التوحيد.
فمن ثمَّ قال تعالى: (فإن يكفر بها هؤلاء) يعني: المشركين من قريش (فقد وكلنا بها قوماً ليسوا بها بكافرين)، يعني: وفقنا للإيمان بها (قوماً ليسوا بها بكافرين)، وهم الأنبياء عليهم الصلاة والسلام المذكورون وأتباعهم، أو أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، وهذا هو الأظهر؛ لأنه إذا قلنا: ((فَقَدْ وَكَّلْنَا بِهَا قَوْمًا لَيْسُوا بِهَا بِكَافِرِينَ))، وهذا يصلح أن يكون في مقابلة كفار قريش لأصحابه الذين آمنوا به وعزروه ونصروه، فإن في إيمانهم غنية عن إيمان الكفرة بها.
ولا شك أن في التكنية عن توفيقهم للإيمان بها بالتوكيل إيذان بفخامتها وعلوها، وأنه مما ينبغي أن يقدر قدرها، قياماً بحق الوكالة.
قال الرازي: دلت هذه الآية على أن الله تعالى سينصر نبيه صلى الله عليه وسلم، ويقوي دينه، ويجعله مستعلياً على كل من عاداه، قاهراً لكل من نازعه، وقد وقع هذا الذي أخبر الله تعالى عنه في هذا الموضع، فكان جارياً مجرى الإخبار عن الغيب فيكون معجزاً.