تفسير قوله تعالى: (الذين آمنوا ولم يلبسوا إيمانهم بظلم)
ثم بيَّن تعالى من له الأمن جواباً عما استفهم عنه الخليل عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام، فجاء الجواب من الله سبحانه وتعالى على هذا السؤال الذي سأله الخليل عليه السلام فقال سبحانه: ﴿الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُوْلَئِكَ لَهُمُ الأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ﴾ [الأنعام: ٨٢].
قوله: (الذين آمنوا ولم يلبسوا إيمانهم بظلم) أي: بشرك، كما يفعله الفريق المشركون؛ حيث يزعمون أنهم يؤمنون بالله عز وجل، وأن عبادتهم للأصنام من تتمات إيمانهم وإحسانهم لأجل التقريب والشفاعة، كما حكى الله سبحانه وتعالى عنهم بقوله: ﴿مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى﴾ [الزمر: ٣] وهذه نفس الحجة التي تذكر الآن في هذا الزمان على ألسنة من يدعون الإسلام ويعبدون الأضرحة والمقامات والموتى من دون الله سبحانه وتعالى، ترى أحدهم يقول: نحن ما نعبدهم، لكن نحن نتوسل بهم إلى الله سبحانه وتعالى؛ لأنهم يقربوننا إلى الله، وأما نحن فبذنوبنا ومعاصينا وتقصيرنا لا يليق بنا أن نتوجه إلى الله سبحانه وتعالى مباشرة؛ فلابد من واسطة بيننا وبين الله عز وجل، وهذه الواسطة هم هؤلاء الأولياء أو الملائكة أو الجن أو غير ذلك مما عبد من دون الله سبحانه وتعالى.
وأصحاب الهياكل أو أصحاب الأشخاص لم يقولوا: نحن نعبد الهياكل التي هي أجرام الكواكب نفسها، ولا الأشخاص الذين صوروهم، إنما قالوا: نحن نستغلها كي تذكرنا بعبادة الله، وتتوسط بيننا وبين الله، وهذا هو كما يقول عباد القبور والأضرحة في هذا الزمان إذا قامت عليهم الحجة، ترى أحدهم يقول: نحن ما نعبدهم، لكن هؤلاء يقربوننا إلى الله، وهم وسائط وشفعاء -والعياذ بالله- إلى الله سبحانه وتعالى، فهذا هو الظلم الذي لابسوا إيمانهم به، وهو المقصود بقوله: ﴿الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ﴾ [الأنعام: ٨٢]، فالموحدون لا يشوبون إيمانهم بشرك كحال هؤلاء الفريق الآخر الذين يلبسون إيمانهم بالشرك، حيث يزعمون أن هذه الأصنام تقربهم إلى الله زلفى.
وقوله: (أولئك لهم الأمن) يعني: يوم القيامة (وهم مهتدون) أي: إلى الحق.
وقوله: (وهم مهتدون) مبتدأ وخبر، ومعناه حصر للهداية في هؤلاء الموحدين، يعني: هم المهتدون لا غيرهم، ومن عداهم في ضلال.
روى البخاري ومسلم وغيرهما عن عبد الله رضي الله عنه قال: (لما نزلت ((وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ)) قال أصحابه صلى الله عليه وسلم: وأينا لم يظلم نفسه -فهموا أن الظلم هنا معناه المعاصي-؟ فنزلت: ((إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ)) [لقمان: ١٣])، وهذا لفظ رواية البخاري، ولفظ رواية الإمام أحمد عن عبد الله رضي الله عنه قال: (لما نزلت هذه الآية: ﴿الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ﴾ [الأنعام: ٨٢] شق ذلك على الصحابة رضي الله تعالى عنهم، فقالوا: يا رسول الله! فأينا لا يظلم نفسه؟ قال: إنه ليس الذي تعنون، ألم تسمعوا ما قال العبد الصالح: ﴿يَا بُنَيَّ لا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ﴾ [لقمان: ١٣] إنما هو الشرك)، فهذه الرواية توضح رواية البخاري السابقة عن ابن مسعود التي قال فيها فنزلت: ﴿إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ﴾ [لقمان: ١٣] من جهة أن النزول يراد به تفسير الآية أحياناً، فيقال -مثلاً-: هذه الآية نزلت في كذا.
والمقصود أن هذه الآية تفسر هذا الموقف أو هذا الكلام، لا أنه كان سبب نزولها بالفعل، وهذا من الاصطلاحات الدقيقة للصحابة والتابعين رضي الله تعالى عنهم، ورحمهم الله أجمعين.
فحينما يقول: نزلت الآية في كذا يعني: أن حكم الآية يدخل في هذا الموضوع المتكلم فيه، لا أنها نزلت فيه بالفعل، فالنزول هنا يراد به التفسير، فكلام ابن مسعود حين قال: (لما نزلت: ((وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ)) قال أصحابه: وأينا لم يظلم نفسه؟ فنزلت: ((إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ)) [لقمان: ١٣]) هل المقصود منه أنها نزلت بالفعل؟
ﷺ لا؛ لأن هذه الآية كانت نزلت قبلها، وهي في سورة لقمان، فمعنى قول ابن مسعود: (فنزلت: ﴿إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ﴾ [لقمان: ١٣]) فيراد بسبب النزول هنا تفسير الآية، لا أنه بالفعل سبب نزولها، لسبب بديهي جداً، وهو أن آية لقمان كان نزولها من قبل.
ولـ ابن أبي حاتم عن عبد الله مرفوعاً: ((وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ)) قال: بشرك.
وقد نقل ذلك عن جملة كبيرة جداً من الصحابة والتابعين، فلا يُعلم مخالف من الصحابة والتابعين في تفسير الظلم هنا بالشرك، وذلك في قوله: ((الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ)) يعني: بشرك، وقوفاً مع الحديث الصحيح في ذلك؛ لأن هذا الحديث بين أن الآيات القرآنية يوضح بعضها ما أبهم في بعض.
وحصل نوع من اللبس عند الصحابة في أن الظلم يعم المعاصي فضلاً عن الشرك، فبين لهم النبي ﷺ أن الظلم في هذه الآية خاصة يقصد به الظلم الأكبر الذي هو الشرك في قوله تعالى: ﴿إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ﴾ [لقمان: ١٣] ففسَّر القرآن بالقرآن، وحيث صحَّ عن النبي ﷺ هذا التفسير فلا يجوز النظر في غيره إذا خالفه، وأي تفسير يخالف ما ثبت عن المعصوم عليه الصلاة والسلام فلا يجوز الأخذ به أو النظر فيه.
فمتى ما صح الحديث في تفسير آية فيجب أن نصير إلى هذا التفسير، فلو قيل: لا يلزم من قوله: ﴿إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ﴾ أن غير الشرك لا يكون ظلماً! أي: قد يقول قائل: إن قوله تعالى: ((إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ))، هل معناه أن غير الشرك لا يكون ظلماً؟ فيجاب بأن التنوين في كلمة (بظلمٍ) للتعظيم، يعني أن أعظم الظلم وأخطر الظلم وأكثر الظلم هو الشرك، فالتنوين هنا للتعظيم، فهذا التعظيم أشار إلى نوع خاص من الظلم وهو الشرك، فكأنه قيل: (الذين آمنوا ولم يلبسوا إيمانهم بظلم عظيم) وهذا الظلم العظيم هو المشار إليه في قوله تعالى: ((إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ)) ولما تبين أن الشرك ظلم عظيم علم أن المراد (لم يلبسوا إيمانهم بشرك)، أو أن المتبادر من المطلق أكمل أفراده.
وسياق الآية يؤكد أن هذا هو المقصود، فقوله تعالى: ((الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ)) يعني: بالشرك الذي هو الظلم العظيم؛ لأن هذه القصة هي قصة إبراهيم عليه السلام من أولها إلى آخرها، وهي إنما وردت في نفي الشركاء والأضداد والأنداد، وليس فيها ذكر الطاعات والعبادات، فوجب حمل الظلم هاهنا على ذلك، إذ كل سياق القصة في قضايا التوحيد وإبطال ألوهية ما عدا الله سبحانه وتعالى، وليس فيها أحكام شرعية، ولا فيها طاعات ولا عبادات، حتى يقال: إنه يحتمل أن الظلم هنا يقصد به المعاصي، وإنما كله في هذا السياق.
يقول القاسمي: حيث علم أن الصادق المصدوق ﷺ فسر الآيات بما تقدم فليعض عليه بالنواجذ، وأما ما هذى به الزمخشري من قوله في تفسير الآية: أي لم يخلطوا إيمانهم بمعصية تفسقهم.
وأبى تفسير الظلم بالكفر فإن هذا الكلام مدفوع.
يعني أن الزمخشري معتزلي، وعدو لدود من أعداء أهل السنة والجماعة، وهو مع براعته في بلاغة القرآن وفي إظهار إعجاز القرآن البلاغي، لكنه -للأسف الشديد- تلبَّس بهذه البدعة الغليظة، وهي مذهب الاعتزال، ولا يخلو تفسيره -مع نفاسته في باب البلاغة والإعجاز- من محاولة ليّ أعناق بعض الآيات حتى توافق مذهب المعتزلة، فلذلك تصدى له الإمام ناصر الدين في كتابه (الانتصاف) وكشف عورات مذهبه الاعتزالي، وأبان عن وجه الحقيقة فيما دسه الزمخشري من تفاسير أو آراء يحاول بها أن يطوع آيات القرآن لتصحيح مذهبه، ففي مثل هذه المواضع الحساسة تجد الزمخشري يضل ضلالاً مبيناً في تفسير الآيات، فمع وضوح الحديث -وهو متفق عليه- تعين تفسير الظلم هنا بأنه الشرك الأكبر الذي هو الظلم العظيم، إلا أنه أبى ذلك، وقال: لو فسرنا الظلم بالشرك العظيم أو بالشرك الأكبر فكيف يكون عنده الإيمان ويختلط بالشرك؟ وهل الشرك أو الكفر يجامع الإيمان؟! وفسرها بقوله: لم يخلطوا إيمانهم بمعصية تفسقهم.
وأبى تفسير الظلم بالكفر؛ لأن لبس الإيمان بالشرك مما لا يتصور، لأنهما ضدان لا يجتمعان على زعمه! وهذا الكلام مدفوع بأن الشرك يلابس الإيمان، والدليل على ذلك قوله تبارك وتعالى: ﴿وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ﴾ [يوسف: ١٠٦] ويقال له كما قال الله: ﴿أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضِ﴾ [البقرة: ٨٥] ولا شك أن تخصيص الأمان بغير العصاة لا يوجب كون العصاة معذبين البتة، بل خائفين ذلك متوقعين له.
وفي (الانتصاف): إنما يروم الزمخشري بذلك تنزيله على معتقده في وجوب وعيد العصاة، وأنهم لا حظ لهم في الأمن، يعني أن العصاة مثل الكفار والمشركين في أنه لا حظ لهم في الأمن المذكور في قوله تعالى: ((أُوْلَئِكَ لَهُمُ الأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ)) ويجعل هذه الآية تقتضي تخصيص الأمن بالجامعين بين الأمرين.
يعني أن الأمن لا يكون إلا لمن جمع بين أمرين: الإيمان والبراءة من المعاصي، بأن يكون مؤمناً الإيمان الذي ينافي الشرك، وبريئاً من المعاصي، ونحن نسلم ذلك، ولا يلزم أن يكون الخوف اللاحق للعصاة هو الخوف اللاحق للكفار؛ لأن العصاة من المؤمنين إنما يخافون من هذا العذاب المؤقت، فإذا كانوا موحدين وماتوا على معاصٍ لم يتوبوا