تفسير قوله تعالى: (وزكريا ويحيى فضلنا على العالمين)
ثم قال تعالى: ﴿وَزَكَرِيَّا وَيَحْيَى وَعِيسَى وَإِلْيَاسَ كُلٌّ مِنَ الصَّالِحِينَ * وَإِسْمَاعِيلَ وَالْيَسَعَ وَيُونُسَ وَلُوطًا وَكُلًّا فَضَّلْنَا عَلَى الْعَالَمِينَ﴾ [الأنعام: ٨٥ - ٨٦].
اعلم أن المقصود من هذه الآيات وما قبلها وما يلحقها تعديد نعم الله تعالى على إبراهيم عليه الصلاة والسلام جزاء اعتزاله قومه وما يعبدون، وقيامه بنصرة التوحيد ودحض الشرك، فذكر تعالى أولاً أنه رفع درجته بإيتائه الحجة على قومه وتخصيصه بها، ثم جعله عزيزاً في الدنيا حسباً ونسباً، أصلاً وفرعاً؛ أصلاً لأنه تولد من نوح أول المرسلين برسالة عامة، ووهبت له الذرية الطاهرة أنبياء البشر، ولذا ذهب الأكثرون إلى أن الضمير في قوله: (ومن ذريته) يعود على إبراهيم عليه السلام؛ لأن مساق اللفظ لبيان شئونه العظيمة، فأكثر المفسرين على أن الهاء تعود على إبراهيم عليه السلام؛ لأن سياق الآيات قبلها وبعدها هو في بيان رفعة شأن ومنزلة خليل الرحمن إبراهيم عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام، ولأن مساق النظم لبيان شئونه العظيمة، فكأنه قيل: ولم نزل نرفع درجاته بعد ذلك؛ إذ هدينا من ذريته داود وسليمان إلى آخره.
فهو المقصود بالذكر في هذه الآيات، وذكر نوح عليه السلام لأن إبراهيم أحد أولاده، وكونه أحد أولاده يكون هذا من موجبات رفعته، وهذا حتى يبين الله سبحانه وتعالى رفعة شأن إبراهيم عليه السلام أصلاً وفرعاً، فذكر نوح ليبين رفعة أصله، وأنه من ذرية نوح عليه السلام.
والغاية هي إلزام من ينتمي إليه من المشركين، وإقامة الحجة على المشركين ومحاجتهم؛ لأنه يريد أن يلزمهم، يعني: أنتم -أيها المشركون، أو أيها العرب- تنتمون إلى إبراهيم عليه السلام، وتنتسبون إلى ملة إبراهيم عليه السلام، فهذا هو إبراهيم عليه السلام الذي كان على خلاف ما أنتم عليه من اتخاذ الأنداد والشركاء، ولا يقال: إن لوطاً ليس من ذرية إبراهيم لأنه ابن أخيه، فإن القرآن نزل بلغة العرب، والعرب تجعل العمَّ أباً، كما أخبر تعالى عن أبناء يعقوب عليه السلام أنهم قالوا: ﴿نَعْبُدُ إِلَهَكَ وَإِلَهَ آبَائِكَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَقَ﴾ [البقرة: ١٣٣]، مع أن إسماعيل عم يعقوب، لكنه دخل في آبائه تغليباً.
وقال محيي السنة الإمام البغوي رحمه الله تعالى: (ومن ذريته) أي: ذرية نوح عليه السلام، ولم يرد من ذرية إبراهيم عليه الصلاة والسلام؛ لأنه ذكر في جملتهم يونس، وكان من الأسباط في زمن شعياء، أرسله الله تعالى إلى أهل نينوى من الموصل.
وقال: إن لوطاً عليه السلام كان ابن أخي إبراهيم عليه السلام، آمن بإبراهيم وخرج معه مهاجراً إلى الشام، فأرسله الله إلى أهل سدوم.
ومن قال: الضمير يعود إلى إبراهيم يقدر الكلام: (ومن ذرية إبراهيم داود وسليمان هدينا)، لأن إبراهيم هو المقصود بالذكر، وذكر نوح لتعظيم إبراهيم، ولذلك قاسم بيونس ولوط، وجعلهما معطوفين على قوله تعالى: (نوحاً هدينا) من عطف الجملة على الجملة، فكأن إدخال لوط هو على سبيل التغليب، أي: أنه من ذرية أخيه، فذكر على سبيل التغليب؛ لأن من ذكر من الأنبياء هم من ذريته عليه السلام.
وبالجملة فالآية المذكورة من المنن على إبراهيم على كلا الوجهين؛ لأن شرف الذرية وشرف الأقارب شرف، لكنه على الأول أظهر، ويكون في هذا تطرية في المدح لإبراهيم عليه السلام بالعود إليه مرةً بعد أخرى.
قال الحافظ ابن كثير في ذكر عيسى عليه السلام في ذرية إبراهيم: هذا فيه دلالة على دخول ولد البنات في ذرية الرجل؛ لأن عيسى لا أب له، ومع ذلك ذكر أنه من ذرية إبراهيم أو نوح، ولا تعارض.
فدل هذا على دخول ذرية البنات في ذرية الرجل؛ لأن انتساب عيسى ليس إلا من جهة أمه مريم عليها السلام، وقد روى ابن أبي حاتم أن الحجاج أرسل إلى يحيى بن يعمر فقال: بلغني أنك تزعم أن الحسن والحسين من ذرية النبي صلى الله عليه وسلم، هل تجده في كتاب الله؟ وقد قرأته من أوله إلى آخره فلم أجده، قال: أليس تقرأ سورة الأنعام (ومن ذريته داود وسليمان) حتى بلغ: (يحيى وعيسى)؟! قال: بلى.
قال: أليس -يعني: عيسى- من ذرية إبراهيم وليس له أب؟! قال: صدقت.
فما ثمرة هذه المسألة؟ ثمرتها أن ذرية الرجل يدخل فيها بناته، فإذا أوصى الرجل لذريته أو وقف على ذريته، أو وهبهم دخل أولاد البنات فيهم، فأما إذا أعطى الرجل بنيه، أو وقف على بنيه دون ذريته فإنه يختص بذلك بنوه لصلبه، وبنو بنيه، أي: أولاده الذكور وأولاد أولاده بنو بنيه، واحتجوا بقول الشاعر: بنونا بنو أبنائنا وبناتنا بنوهن أبناء الرجال الأباعد وقال آخرون: ويدخل بنو البنات فيهم، بما ثبت في صحيح البخاري أن رسول الله ﷺ قال في الحسن بن علي رضي الله تعالى عنهما: (إن ابني هذا سيد، ولعل الله أن يصلح به بين فئتين عظيمتين من المسلمين) فسماه ابناً، فدل على دخوله في الأبناء.
وقال آخرون: هذا تجوز.
وعلى أي الأحوال فالمسألة مختلف فيها، والقائل بها استدل بهذه الآية وآية المباهلة.
وآية المباهلة هي قوله تعالى: ﴿فَمَنْ حَاجَّكَ فِيهِ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ فَقُلْ تَعَالَوْا نَدْعُ أَبْنَاءَنَا وَأَبْنَاءَكُمْ وَنِسَاءَنَا وَنِسَاءَكُمْ﴾ [آل عمران: ٦١]، فإن النبي ﷺ جمع الحسن والحسين ليطبق قوله تعالى: ﴿أَبْنَاءَنَا وَأَبْنَاءَكُمْ﴾ [آل عمران: ٦١]، فدل على أنه اعتبر الحسن والحسين -مع أنهما من ذرية بنته فاطمة عليها السلام- من أبنائه، فهذا -أيضاً- يؤيد ذلك.
والقائل بهذا الكلام الذي ذكرناه استدل بهذه الآية هنا، وهو ذكر عيسى عليه السلام في ذرية إبراهيم أو نوح، وهو لا يمت إليهما إلا من طريق الأم؛ لأنه لا أب له، وكذلك في آية المباهلة، حيث قال تعالى: ﴿فَقُلْ تَعَالَوْا نَدْعُ أَبْنَاءَنَا وَأَبْنَاءَكُمْ﴾ [آل عمران: ٦١]، فجمع الحسن والحسين بعد ما نزلت هذه الآية، إلا إذا قيل: إن من خصائصه عليه الصلاة والسلام أن أولاد بنته هم من ذريته.
ولم يذكر إسماعيل عليه السلام مع إسحاق، كما هو ظاهر من الآية هنا، فإنه تعالى قال: ((وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ)) ولم يقل: وإسماعيل.
وإنما ذكر إسماعيل بعد ذلك في قوله: ((وَإِسْمَاعِيلَ وَالْيَسَعَ وَيُونُسَ وَلُوطًا))، وإنما أخر ذكره لأن المقصود بالذكر هاهنا أنبياء بني إسرائيل، وهم بأسرهم أولاد إسحاق ويعقوب، وأما إسماعيل فلم يخرج من صلبه من الأنبياء إلا خاتمهم وأفضلهم صلى الله عليه وسلم، ولا يقتضي المقام ذكره صلى الله عليه وآله وسلم.
وإبراهيم لما ترك قومه وما يعبدون إلى عبادة الله وحده رزقه الله النعم العظيمة في الدين والدنيا، ومنها إيتاؤه أولاداً أنبياء.
واعلم أنه تعالى ذكر هنا ثمانية عشر نبياً من الأنبياء عليهم السلام من غير ترتيب، لا بحسب الزمان ولا بحسب الفضل؛ لأن الواو لا تقتضي الترتيب، لكن هنا لطيفة في هذا الترتيب، وهي أن الله تعالى خص كل طائفة من طوائف الأنبياء عليهم الصلاة والسلام بنوع من الكرامة والفضل، فذكر أولاً نوحاً وإبراهيم وإسحاق ويعقوب؛ لأنهم أصول الأنبياء، وإليهم ترجع أنسابهم جميعاً.
فذكر في أول السياق هؤلاء الأنبياء عليهم السلام، أعني نوحاً وإبراهيم وإسحاق ويعقوب؛ لأن هؤلاء هم أصول الأنبياء، ولا شك في أن نوحاً أصل هذه الأصول كلها، وإبراهيم خرج منه هؤلاء الأنبياء، خاصة أنبياء بني إسرائيل؛ لأنهم الأكثرون، والسياق فيه الامتنان على إبراهيم بكثرة الأنبياء في ذريته، وهذا إنما أتى من إسحاق ويعقوب وذريتهما.
ثم من المراتب المعتبرة بعد النبوة الملك والقدرة والسلطان، فبعد النبوة هناك مرتبة الملك والقدرة والسلطان، وقد أعطى الله داود وسليمان من ذلك حظاً وافراً، فلذلك قال تبارك وتعالى بعد ذلك: (وسليمان وأيوب) إلى آخره.
ومن المراتب الصبر عند نزول البلاء والمحن والشدائد، وقد خص الله بهذه أيوب عليه السلام، ومن المراتب مرتبة الصبر على الشدة بجانب الملك والسلطان، واجتمعتا في يوسف عليه السلام، فإنه صبر على البلاء والشدة إلى أن آتاه الله ملك مصر مع النبوة.
ثم من المراتب المعتبرة في تفضيل الأنبياء عليه السلام كثرة المعجزات، وقوة البراهين، وقد خص الله موسى وهارون من ذلك بالحظ الوافر.
ثم من المراتب المعتبرة الزهد في الدنيا، والإعراض عنها، وقد خص الله بذلك زكريا ويحيى وعيسى وإلياس عليهم السلام، ولهذا السبب وصفهم بأنهم من الصالحين، ثم ذكر الله من بعد هؤلاء الأنبياء من لم يبق له أتباع ولا شريعة، وهم إسماعيل واليسع ويونس ولوط، فإذا اعتبرنا هذه اللطيفة على هذا الوجه كان هذا الترتيب من أحسن شيء يذكر، والله تعالى أعلم بمراده وأسرار كتابه.
وقد استدل بقوله تعالى: ((وَكُلًّا فَضَّلْنَا عَلَى الْعَالَمِينَ)) من يرى أن الأنبياء أفضل من الملائكة؛ لأن العالم اسم لكل موجود من سوى الله تعالى، فيدخل فيه الملك، فاستدل بهذه الآية (وكلاً فضلنا على العالمين)، من قال بأن الأنبياء أفضل من الملائكة؛ لأن كلمة (العالمين) تشمل الملائكة.
وقوله تعالى: (ووهبنا له إسحاق ويعقوب كلاً هدينا) ذكر الله سبحانه وتعالى نعمة الهداية في سياق تعديد نعمه على إبراهيم عليه السلام بشرف أصوله وبشرف فروعه؛ لأن الولد لا يعد نعمة ما لم يكن مهدياً، فامتن عليه بذرية مهدية، أما إذا كانت الذرية غير مهدية فلا تعد نعمة، فأعظم النعمة أن تكون الذرية مهدية، فلذلك وصفهم بقوله: (كلاً هدينا).