تفسير قوله تعالى: (وهذا كتاب أنزلناه مبارك فاتبعوه واتقوا لعلكم ترحمون)
ثم قال عز وجل مبيناً أن القرآن أفضل من التوراة وأزيد حسناً، فالقرآن أولى بالمتابعة من هذه الكتب: ﴿وَهَذَا كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ فَاتَّبِعُوهُ وَاتَّقُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ﴾ [الأنعام: ١٥٥].
قوله: (وهذا) أي: القرآن، (كتاب أنزلناه مبارك)، يعني: أكثر نفعاً من التوراة ديناً ودنيا، (فاتبعوه) أي: اعملوا بما فيه من الأوامر والنواهي والأحكام، (واتقوا) يعني: اتقوا مخالفته واتباع غيره؛ لأن القرآن نسخ ما قبله، (لعلكم ترحمون) أي: لعلكم ترحمون بواسطة اتباعه، وهو العمل بما فيه، وفيه إشارة إلى أنه لا رحمة بمتابعة المنسوخ وإن آمن صاحب هذه المتابعة بلقاء ربه، فلو أن امرءاً يؤمن بالآخرة، وأنه يوجد يوم قيامة وحساب وجنة ونار، لكن لا يتبع القرآن، وإنما يتبع كتاباً منسوخاً كالتوراة أو الإنجيل فإنه لا يستحق أن يرحم، ولا تجوز عليه الرحمة، والدليل على ذلك قوله: (لعلكم ترحمون) فلا سبيل إلى الرحمة إلا باتباع القرآن، أما اتباع ما نسخه القرآن فلن ينجي من العذاب، حتى لو آمن بقضايا الإيمان الأخرى.
وتعلم القرآن فرض عين، أي أن الأمة كلها ينبغي أن تتعلم القرآن الكريم، لكن إذا قام بهذا الواجب طائفة بأن حفظوا القرآن وتعمقوا في علومه سقط الواجب عن الباقين، لكن ما الذي يتعين من القرآن؟
و ﷺ هو ما لا تصح الصلاة إلا به، كقراءة الفاتحة.
وهنا ملاحظة يشير إليها ابن كثير كثيراً في لطائف تفسيره المباركة، وهي الربط دائماً بين موسى وبين محمد عليهما الصلاة والسلام، والربط باستمرار بين القرآن وبين التوراة، وعيسى عليه السلام وإن كان هو بين محمد وبين موسى عليهم جميعاً الصلاة والسلام، لكن عيسى إنما جاء مكملاً ومتمماً لما جاء في التوراة، وأوجه الشبه بين رسول الله محمد عليه الصلاة والسلام وبين موسى عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام كثيرة، والشواهد على ذلك كثيرة، يقول ابن كثير: إنه تعالى كثيراً ما يقرن بين الكتابين: القرآن والتوراة، كهذه الآيات.
يعني: بعدما قال تبارك وتعالى: ﴿وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ﴾ [الأنعام: ١٥٣] قال: ﴿ثُمَّ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ تَمَامًا عَلَى الَّذِي أَحْسَنَ وَتَفْصِيلًا لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً لَعَلَّهُمْ بِلِقَاءِ رَبِّهِمْ يُؤْمِنُونَ * وَهَذَا كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ فَاتَّبِعُوهُ وَاتَّقُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ﴾ [الأنعام: ١٥٤ - ١٥٥]، فذكر التوراة ثم عقب بالقرآن الكريم، وفي قوله تبارك وتعالى: ﴿وَمِنْ قَبْلِهِ كِتَابُ مُوسَى إِمَامًا وَرَحْمَةً وَهَذَا كِتَابٌ مُصَدِّقٌ لِسَانًا عَرَبِيًّا﴾ [الأحقاف: ١٢] قرن عز وجل بين كتاب موسى وبين كتاب محمد عليهما الصلاة والسلام، وقوله تعالى في أول السورة: ﴿قُلْ مَنْ أَنزَلَ الْكِتَابَ الَّذِي جَاءَ بِهِ مُوسَى﴾ [الأنعام: ٩١] ثم قال بعدها: ﴿وَهَذَا كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ مُصَدِّقُ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَلِتُنذِرَ أُمَّ الْقُرَى وَمَنْ حَوْلَهَا﴾ [الأنعام: ٩٢] إلى آخر الآيات.
وقال تعالى مخبراً عن المشركين: ﴿فَلَمَّا جَاءَهُمُ الْحَقُّ مِنْ عِنْدِنَا قَالُوا لَوْلا أُوتِيَ مِثْلَ مَا أُوتِيَ مُوسَى أَوَلَمْ يَكْفُرُوا بِمَا أُوتِيَ مُوسَى مِنْ قَبْلُ قَالُوا سِحْرَانِ تَظَاهَرَا وَقَالُوا إِنَّا بِكُلٍّ كَافِرُونَ﴾ [القصص: ٤٨] فانظر إلى الربط -أيضاً- بين القرآن والتوراة.
وكذلك في صدر سورة الإسراء يوجد هذا الربط، وفي سورة القصص في مواضع كثيرة، وفي سورة الأحقاف قال تعالى حاكياً عن الجن: ﴿إِنَّا سَمِعْنَا كِتَابًا أُنْزِلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَى مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ وَإِلَى طَرِيقٍ مُسْتَقِيمٍ﴾ [الأحقاف: ٣٠].
والنجاشي كان نصرانياً، ومع ذلك لما قرأ عليه جعفر بن أبي طالب سورة مريم بكى وقال: (إن هذا والذي جاء به موسى ليخرج من مشكاة واحدة)، وورقة بن نوفل لما تلا عليه الرسول عليه الصلاة والسلام سورة العلق، قال: (هذا الناموس الذي أنزله الله على موسى)، وهذا ليس إهمالاً لشأن عيسى، لكن صاحب الرسالة الأساسية هو موسى عليه السلام، وعيسى جاء مكملاً، فرسالة موسى كانت فيها الشرائع، وكان فيها الجهاد ونحو ذلك، بخلاف رسالة عيسى عليه السلام، فإنما جاء عيسى عليه السلام ليحل لهم بعض الذي حرم عليهم، وكان يغلب على دعوة عيسى عليه السلام الرحمة.


الصفحة التالية
Icon