الكلام على الاستواء
((إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ))، اعلم أن الاستواء ورد على معانٍ اشترك لفظه فيها، فجاء الاستواء بمعنى: الاستقرار، ومنه قوله تعالى: ﴿وَاسْتَوَتْ عَلَى الْجُودِيِّ﴾ [هود: ٤٤] يعني: استقرت على جبل الجودي، ويأتي بمعنى: القصد، ومنه قوله عز وجل: ((ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ)) [فصلت: ١١]، وذلك إذا تعدى بحرف إلى.
وكل من فرغ من أمر وقصد لغيره فقد استوى له واستوى إليه، قال الفراء: تقول العرب: استوى إلي يخاطبني يعني: أقبل إلي يخاطبني، ويأتي الاستواء بمعنى: الاستيلاء كما قال الشاعر: قد استوى بشر على العراق من غير سيف أو دم مهراق لكن يقطع بعض العلماء المحققين بأن هذا البيت مصنوع وليس صحيحاً، لكن نحن نتعرض له لأنه يكثر استدلال بعض الناس به.
فإذا كان البيت مصنوعاً فلا يبقى هناك شاهد لهذه اللغة، وهو استعمال الاستواء بمعنى الاستيلاء، وقال آخر أيضاً: فلما علونا واستوينا عليهم تركناهم صرعى لنسر وكاسر وإن كان هذا الشعر لم يعرف قائله.
ويأتي الاستواء بمعنى العلو، ومنه قوله تعالى: ﴿فَإِذَا اسْتَوَيْتَ أَنْتَ وَمَنْ مَعَكَ عَلَى الْفُلْكِ﴾ [المؤمنون: ٢٨]، ومنه هذه الآية فهي من الاستواء بمعنى: العلو، أي: قوله تعالى: (ثم استوى على العرش).
قال البخاري في آخر صحيحه، في كتاب الرد على الجهمية في باب قوله تعالى: ﴿وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ﴾ [هود: ٧] قال مجاهد: استوى: علا على العرش.
وفي كتاب العلو للحافظ الذهبي قال إسحاق بن راهويه سمعت غير واحد من المفسرين يقول: الرحمن على العرش استوى أي: ارتفع.
ونقل ابن جرير عن الربيع بن أنس أنه بمعنى ارتفع، وقال: إنه في كل مواضعه بمعنى: علا وارتفع.
وأقول: لا حاجة إلى الاستكثار من ذلك، فإن الاستواء غير مجهول، وإن كان الكيف مجهولاً، فالكيف يقال للشيء الذي سبق أن تعرفت عليه من قبل أو رأيته، فترسم صورة في ذهنك لهذا الشيء، بحيث إنك إذا غبت عنه فقيل لك مثلاً: كيف شكل السيارة؟ فإنك تتذكر هذه الصورة، ولو فرض أن إنساناً من يوم أن خلقه الله لم ير شيئاً اسمه سيارة، فلن يعرف أية سيارة؛ لأنه ما رآها، لكن إذا كان قد رآها من قبل وارتسمت لها صورة في ذهنه، فإنه إذا قيل له: سيارة يقفز إلى ذهنه السيارة، إذا قيل: طائرة يعرف ما هي الطائرة وهكذا، فمن رأى الله سبحانه وتعالى حتى يكيف لنا الاستواء على العرش؟! هذا مما لا أمل فيه على الإطلاق، قد آيسنا الله سبحانه وتعالى أن نطلع على هذه الكيفية؛ فلذلك لا يقال لله عز وجل: كيف؟ فلا يعرف كيفه إلا هو سبحانه وتعالى ﴿وَلا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْمًا﴾ [طه: ١١٠].
وكما ضربنا المثال مراراً على أننا نعجز عن معرفة كثير من مخلوقات الله سبحانه وتعالى، وذكرنا لكم قصة ذلك الرجل أو ذلك الشاب الذي كان يقع في التشبيه والتجسيم والعياذ بالله، فأتاه أحد العلماء الحديث الذي فيه أن النبي ﷺ رأى جبريل على صورته الحقيقية وله ستمائة جناح، فقال هذا العالم لذلك الشاب: أخبرني عن خلق من خلق الله له ستمائة جناح؟ فحار وما استطاع أن يقول كلمة، فقال له: فأنا أضع عنك سبعة وتسعين وخمسمائة جناح، ويبقى الثلاثة الأجنحة، فصف لي خلقاً من خلق الله له ثلاثة أجنحة؟ كيف تركب هذه الأجنحة فحار، فقال له: نحن قد عجزنا عن صفة المخلوق فنحن عن صفة الخالق أعجز، وإذا كان الله سبحانه وتعالى قال في الجنة: (فيها ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر)، والجنة مخلوق من مخلوقات الله، فكيف بالخالق عز وجل؟! ونحن قد أكثرنا من الكلام من قبل في هذا الأمر، وأننا لا نطمح في أن نعرف كيف استوى؟ كيف يد الله؟ كيف عين الله؟ فهذه الأشياء كلها قد توقع الإنسان في التعطيل، حيث إنه أولاً يشبه إذا سمع يد الله يعني: ﴿مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ﴾ [ص: ٧٥]، فإذا وقع من البداية في التشبيه فإنه يفر من التشبيه إلى التعطيل والنفي -والعياذ بالله-.
لكن المؤمن الموحد الذي يسلك مسلك السلف الصالح لا يشبه أصلاً، بل يقول: (أمروها كما جاءت)، يعني: لا نكيف ولا نشبه الله سبحانه وتعالى بخلقه، مع القطع والجزم الأكيد واليقين بأن الله ليس كمثله شيء أبداً، ولا يشبه الله سبحانه وتعالى شيء: ﴿لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ﴾ [الشورى: ١١] يعني: أنت تثبت لله صفة السمع، فهل سمع الله كأسماعنا؟ وهل بصر الله كأبصارنا؟! فأنت تثبت هذه الصفة مع نفي الكيفية ومع نفي المشابهة، فكذلك سائر صفات الله عز وجل.
وقد فصلنا في هذا عند دراسة كتاب العقيدة في الأسماء والصفات للدكتور الأشقر، وتكلمنا في هذا أيضاً في درسنا من قبل كتاب مختصر كتاب العلو.