تفسير قوله تعالى: (أو عجبتم أن جاءكم ذكر من ربكم على رجل منكم لينذركم لعلكم تفلحون)
قال تعالى: ﴿أَوَعَجِبْتُمْ أَنْ جَاءَكُمْ ذِكْرٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَلَى رَجُلٍ مِنْكُمْ لِيُنذِرَكُمْ وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفَاءَ مِنْ بَعْدِ قَوْمِ نُوحٍ وَزَادَكُمْ فِي الْخَلْقِ بَسْطَةً فَاذْكُرُوا آلاءَ اللَّهِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ﴾ [الأعراف: ٦٩].
يقول هود عليه السلام لقومه: ((أَوَعَجِبْتُمْ أَنْ جَاءَكُمْ ذِكْرٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَلَى رَجُلٍ مِنْكُمْ لِيُنذِرَكُمْ)) يعني: ينذركم أيام الله ولقاءه عز وجل، يعني: لا تعجبوا من هذا، ولكن احمدوا الله على هذه النعمة.
((وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفَاءَ مِنْ بَعْدِ قَوْمِ نُوحٍ)) أي: خلفتموهم في مساكنهم أو في الأرض بأن جعلكم ملوكاً بعدهم.
إما خلفاء بمعنى: كما يخلف الملك الملك الآخر، فأنتم الملوك بعد قوم نوح عليه السلام، أو خلفاء بمعنى: خلفتموهم في مساكنهم، كما قال تعالى: ﴿وَسَكَنتُمْ فِي مَسَاكِنِ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَنفُسَهُمْ وَتَبَيَّنَ لَكُمْ كَيْفَ فَعَلْنَا بِهِمْ وَضَرَبْنَا لَكُمُ الأَمْثَالَ﴾ [إبراهيم: ٤٥].
((وَزَادَكُمْ فِي الْخَلْقِ بَسْطَةً)) أي: قامة وقوة.
((فَاذْكُرُوا آلاءَ اللَّهِ)) يعني: اذكروا آلاء الله في استخلافكم وبسطة أجرامكم -يعني: أجسامكم- وما سواهما من عطاياه لتخصصوه بالعبادة ((لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُون)) أي: تفوزون بالفلاح.
قال الزمخشري: في إجابة الأنبياء عليهم السلام من نسبهم إلى الضلال والسفاهة بما أجابوهم به من الكلام الصادر عن الحلم والإغضاء وترك المقابلة بما قالوا لهم مع علمهم بأن خصومهم أضل الناس وأسفههم: أدب حسن وخلق عظيم، إشارة إلى حسن خلق الأنبياء عليهم السلام، وصبرهم على أذى قومهم، وعظم حلمهم عليهم وعلى نبينا الصلاة والسلام.
وقد سبق ما ذكره الله في مسلك نوح مع قومه، لما دعاهم إلى الله سبحانه وتعالى، ﴿قَالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِهِ إِنَّا لَنَرَاكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ﴾ [الأعراف: ٦٠]، فكان
ﷺ ﴿ قَالَ يَا قَوْمِ لَيْسَ بِي ضَلالَةٌ﴾ [الأعراف: ٦١] وما قال لهم: أنتم أهل الضلال، وإن كان يعلم أنهم الضلال، ومتمكنون في صفة الضلال، لكن قال: ((وَلَكِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ * أُبَلِّغُكُمْ رِسَالاتِ رَبِّي وَأَنصَحُ لَكُمْ وَأَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ} [الأعراف: ٦١ - ٦٢].
كذلك هنا قال قوم هود لهود عليه السلام: ﴿قَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ إِنَّا لَنَرَاكَ فِي سَفَاهَةٍ وَإِنَّا لَنَظُنُّكَ مِنَ الْكَاذِبِينَ * قَالَ يَا قَوْمِ لَيْسَ بِي سَفَاهَةٌ وَلَكِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ * أُبَلِّغُكُمْ رِسَالاتِ رَبِّي وَأَنَا لَكُمْ نَاصِحٌ أَمِينٌ﴾ [الأعراف: ٦٨].
ففي جواب الأنبياء بالكلام الصادر عن الإغضاء والحلم، وترك المقابلة بما قالوا لهم بالمثل، مع علمهم بأن خصومهم أضل الناس وأسفههم، في ذلك كله أدب حسن وخلق عظيم، وحكاية الله عز وجل ذلك تعليم لعباده كيف يخاطبون السفهاء، وكيف يغضون عنهم، ويسبلون أذيالهم على ما يكون منهم، يعني: أن تستر على السفيه حتى وإن آذاك وتتغاضى، كما قال الشاعر: ولقد أمر على اللئيم يسبني فمضيت ثمت قلت لا يعنيني لأن الانشغال بالدفاع عن الذات وبرد هذه السفاهات، وهذه السباب والشتائم، ليس من شأن صاحب الحق، فإنه يريد التمكين لحقه وتوضيحه وبيانه، ولا يريد الانتصار لنفسه، بل لا يفكر في الانتصار لنفسه، وإنما يتألم لما هم عليه من الضلال.
وفي ذلك كمال النصح والشفقة، وهضم النفس، وحسن المجادلة، فإذاً كأن الله سبحانه وتعالى بحكاية هذا الكلام وهذه المواقف بين الأنبياء وقومهم يعلمنا أنه ينبغي لكل ناصح ألا يثأر لنفسه، أو يغضب لنفسه، وإنما يكون كل همه وجل ما يعنيه هو تبليغ الرسالة وإيضاح الحق.
وهذا أوضح ما يكون أيضاً في مناظرة موسى مع فرعون، خاصة في أوائل سورة الشعراء، ترى العجب من إغراق فرعون في السفاهة والجهالة والضلالة والكفران، وتمكن موسى عليه السلام من العلم والحجة والبصيرة، فكلما رد بحجة قابله فرعون بالسفاهة أو بالتهديد أو بالأذى، كما هو معلوم لمن يراجع أوائل سورة الشعراء.