تفسير قوله تعالى: (وأوحينا إلى موسى أن ألق عصاك فإذا هي تلقف ما يأفكون وتوفنا مسلمين)
قال عز وجل: ﴿وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنْ أَلْقِ عَصَاكَ فَإِذَا هِيَ تَلْقَفُ مَا يَأْفِكُونَ {فَوَقَعَ الْحَقُّ وَبَطَلَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ * فَغُلِبُوا هُنَالِكَ وَانقَلَبُوا صَاغِرِينَ * وَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سَاجِدِينَ * قَالُوا آمَنَّا بِرَبِّ الْعَالَمِينَ * رَبِّ مُوسَى وَهَارُونَ * قَالَ فِرْعَوْنُ آمَنتُمْ بِهِ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ إِنَّ هَذَا لَمَكْرٌ مَكَرْتُمُوهُ فِي الْمَدِينَةِ لِتُخْرِجُوا مِنْهَا أَهْلَهَا فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ * لَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلافٍ ثُمَّ لَأُصَلِّبَنَّكُمْ أَجْمَعِينَ * قَالُوا إِنَّا إِلَى رَبِّنَا مُنقَلِبُونَ * وَمَا تَنقِمُ مِنَّا إِلَّا أَنْ آمَنَّا بِآيَاتِ رَبِّنَا لَمَّا جَاءَتْنَا رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا وَتَوَفَّنَا مُسْلِمِينَ﴾ [الأعراف: ١١٧ - ١٢٦].
((تلقف)) أي: تبتلع، ((ما يأفكون)) يعني: ما يلقونه ويوهمون أنه حق وهو في الحقيقة باطل، وأصل الإفك الكذب، ((فوقع الحق)): ظهر الحق وثبت الإعجاز، ((وبطل ما كانوا يعملون)) أي: من السحر لإبطال الإعجاز.
((فغلبوا هنالك)) يعني: في مكان وعر، وهو المكان الذي اجتمع فيه أهل مصر بدعوة فرعون لهم لظنه غلبة السحرة، ففرعون حشر الأقباط وحشر السحرة ﴿قال مَوْعِدُكُمْ يَوْمُ الزِّينَةِ وَأَنْ يُحْشَرَ النَّاسُ ضُحًى﴾ [طه: ٥٩] أي: في وقت واضح في النهار، بحيث لا يلتبس الأمر على أحد.
((فَغُلِبُوا هُنَالِكَ)) يعني: في هذا المكان، ((وَانقَلَبُوا صَاغِرِينَ)) أي: رجعوا ذليلين، ((وَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سَاجِدِينَ)) وفي الحال: ((قَالُوا آمَنَّا بِرَبِّ الْعَالَمِينَ)) ((رَبِّ مُوسَى وَهَارُونَ)).
قال الجشمي: دلت الآية على أن السحرة عرفوا أن أمر العصا ليس من جنس السحر، فآمنوا في الحال.
((قَالَ فِرْعَوْنُ آمَنتُمْ بِهِ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ إِنَّ هَذَا لَمَكْرٌ مَكَرْتُمُوهُ فِي الْمَدِينَةِ لِتُخْرِجُوا مِنْهَا أَهْلَهَا فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ))، وهذا وعيد شديد من فرعون، ثم فصله فقال: ((لَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلافٍ ثُمَّ لَأُصَلِّبَنَّكُمْ أَجْمَعِين)) أي: لأقطعن من كل جانب عضواً مغايراً للآخر، كأن تقطع اليد من اليمين والرجل من الشمال والعكس.
قال الشهاب: ((من خلاف)) حال يعني: مختلفة، وهنا تفسير ضعيف وهو أن: ((من خلاف)) يعني: لأجل خلافكم.
وهذا بعيد.
((ثُمَّ لَأُصَلِّبَنَّكُمْ أَجْمَعِينَ)) أي: فضيحة لكم وتمثيلاً وزجراً لأمثالكم.
((قَالُوا إِنَّا إِلَى رَبِّنَا مُنقَلِبُونَ)) يعني: فلا نبالي بما تهددنا به من الموت؛ لأن هذا الموت الذي تخوفنا به هو وسيلة انتقالنا إلى الدار الآخرة، حيث نحيا حياة هي خير من هذه الحياة الأولى، فما تهددنا به وهو الموت أو القتل هو الذي يقربنا إلى من آمنا به، فيحيينا حياة هي خير من الحياة الدنيا.
((وما تنقم منا إلا أن آمنا بآيات ربنا لما جاءتنا)) أي: ما تعيب منا إلا الإيمان بآيات الله، وما عبته وأنكرته هو أعظم محاسننا، وأعظم شيء نعتز به؛ لأنه خير الأعمال وأعظم المناقب، فلا نعدل عنه طلباً لمرضاتك.
وهكذا المؤمنون المضطهدون في كل زمان، جريمتهم التي تنقم عليهم هي إيمانهم بالله عز وجل: ﴿وَمَا نَقَمُوا مِنْهُمْ إِلَّا أَنْ يُؤْمِنُوا بِاللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ﴾ [البروج: ٨].
((رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا)) الإفراغ: هو الصب، أي: ربنا اصبب علينا صبراً، فشبهوا الصبر بسائل أو مطر سينزل عليهم، أي يصبه الله سبحانه وتعالى عليهم ويكثر من هذا الإفراغ، أي: أفض علينا صبراً واسعاً لنثبت على دينك، وذلك عند القطع والصلب.
((وتوفنا مسلمين)) أي: ثابتين على الإسلام، فيقصدون هنا حسن الخاتمة.


الصفحة التالية
Icon