تفسير قوله تعالى: (ولما سقط في أيديهم ورأوا أنهم قد ضلوا قالوا لئن لم يرحمنا ربنا)
ثم قال تعالى: ﴿وَلَمَّا سُقِطَ فِي أَيْدِيهِمْ وَرَأَوْا أَنَّهُمْ قَدْ ضَلُّوا قَالُوا لَئِنْ لَمْ يَرْحَمْنَا رَبُّنَا وَيَغْفِرْ لَنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ﴾ [الأعراف: ١٤٩].
قوله: ((ولما سقط في أيديهم)) يعني: ندموا على عبادة العجل.
((ورأوا أنهم قد ضلوا)) يعني: علموا وأيقنوا أنهم قد ضلوا، عن الهدى وعن الحق.
((قالوا لئن لم يرحمنا ربنا)) يعني: بقبول توبتنا.
((ويغفر لنا)) أي: ما قدمنا من عبادة العجل، ((لنكونن من الخاسرين)) أي: بالعقوبة، يعني: لنكونن من الخاسرين الذين خسروا أعمالهم وأعمارهم، يقال للنادم على ما فرط منه: قد سقط في يده، أو أسقط في يده.
قال الفراء: يقال: سقط في يده، وأسقط في يده من الندامة، و (سقط) أكثر وأجود.
ويكفي في ذلك أن القرآن الكريم آثرها: (ولما سقط في أيديهم) وأنكر أبو عمرو (أسقط) بالألف، وجوزه الأخفش.
قال الزمخشري: من شأن من اشتد ندمه وحسرته أن يعض يده غماً فتصير يده مسقوطاً فيها؛ لأن فاه قد وقع فيها، هذا أصل تعبير (سقط في يده)؛ لأنه يلزم من الندم الشديد أن يحصل العض على يده بفمه، فكأن فمه وقع وسقط في يده، فهذا العض مرتبط بالندامة، واستعير لأجل ذلك.
وقال الزجاج: معناه سقط الندم في أيديهم، أي: في قلوبهم وأنفسهم، كما يقال: حصل في يده مكروه، وإن كان محالاً أن يكون في اليد، تشبيهاً لما يحصل في القلب وفي النفس بما يحصل في اليد ويرى في العين.
وقال الفارسي: (سقط في أيديهم) أي: ضربوا أكفهم على أكفهم من الندم.
أي: أن الإنسان إذا ندم قد يضرب كفاً على كف، فمعنى سقط في أيديهم: ضربوا أكفهم على أكفهم من الندم، فإن صح ذلك فهو إذاً من السقوط.
وقال في (العباب): هذا نظم لم يسمع به قبل القرآن -أي: هذا التعبير البليغ لم يستعمل قبل القرآن الكريم- ولا عرفته العرب، والأصل فيه: نزول الشيء من أعلى إلى أسفل، ووقوعه على الأرض، ثم اتسع فيه فقيل للخطأ من الكلام: سقط؛ لأنهم شبهوه بما لا يحتاج إليه فيسقط، وذكر اليد لأن الندم يحدث في القلب، وأثره يظهر في اليد، كقوله تعالى: ﴿فَأَصْبَحَ يُقَلِّبُ كَفَّيْهِ عَلَى مَا أَنفَقَ فِيهَا﴾ [الكهف: ٤٢]، فقوله: (يقلب كفيه) فيه تعبير عن الندم والحسرة، فتقليب الكفين يعكس ما في القلب، وأنت إذا رأيت إنساناً يفعل ذلك فإنه يعكس لك الشعور الذي في قلبه ونفسه؛ لأن اليد هي الجارحة العظمى، فربما يسند إليها ما لم تباشره، كقوله تبارك وتعالى: ﴿ذَلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ يَدَاكَ﴾ [الحج: ١٠]، ولا يشترط أن تكون المعصية ارتكبت باليد، يعني: الإنسان إذا أكل حراماً وعوقب عليه يقال له: ذلك بما قدمت يداك، وإذا استعمل أي جارحة أخرى غير اليدين في المعصية فإنه يقال كذلك، فتنسب إلى اليد؛ لأنها أعظم جارحة في البدن، وعلى هذا يكون سقط من السقاط وهو كثرة الخطأ، كما قال: كيف يرجون سقاطي بعدما لفع الرأس بياض وصلع وقيل: من عادة النادم أن يطأطئ رأسه ويضعه على يده معتمداً عليها، وتارة يضعها تحت ذقنه وشطر من وجهه، على هيئة لو نزعت يده لسقط على وجهه، فكانت اليد مسقوطاً فيها، لتمكن السقوط فيها، ويكون قوله: (سقط في أيديهم) يعني: سقط على أيديهم، كقوله: ﴿وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ﴾ [طه: ٧١]، أي: عليها.
و (سقط) عده بعضهم من الأفعال التي لا تتصرف كنعم وبئس.
وقرئ: (سَقط في أيديهم) بالبناء للمعلوم يعني: سقط الندم أو العض أو الخسران، وكله تمثيل، وقرئ: (أُسقط) رباعي مجهول، وهي لغة نقلها الفراء والزجاج، كما قدمنا.


الصفحة التالية
Icon