البشارة بنبي مثل موسى والدليل على أنه محمد لا يوشع
ومن هذه البشارات: في الباب الثامن عشر من سفر التثنية هكذا: (قال لي الرب قد أحسنوا فيما تكلموا، أقيم لهم نبياً من وصف إخوتهم مثلك -يعني: مثل موسى- وأجعل كلامي في فمه)، وفي هذا إشارة إلى أميته عليه الصلاة والسلام، وأنه ينطق بالقرآن، وفيه إشارة إلى أنه يعطيه عليه الصلاة والسلام جوامع الكلم، قال: (وأجعل كلامي في فمه، سيكلمهم بكل ما أوصيه به، ويكون أن الإنسان الذي لا يسمع لكلامي الذي يتكلم به باسمي أنا أطالبه)، يعني: من لا يستجيب لشريعة هذا النبي أنا أطالبه وأعاقبه.
فهذه البشارة هي في حق نبينا ﷺ قطعاً؛ لأنه من ذرية إسماعيل، وذريته يسمون إخوة لبني إبراهيم، فقوله: (أقيم لهم نبياً من وسط إخوتهم مثلك) أي: أن هذا النبي يكون شبيهاً بموسى عليه السلام من وسط إخوتهم، يعني: أنه ليس من بني إسرائيل، لكن من إخوتهم الذين هم أولاد إسماعيل عليه السلام، بدليل ما ذكر في التوراة في حق إسماعيل، وأنه قبالة إخوته ينصب المضارب، وقد جرت عادة الكتب المنزلة بتسمية أبناء الأعمام عن بعد بعيد إخوة، كما دعي في القرآن هود وصالح إخوة لعاد وثمود، مع أنهم على بعد بعيد من أولاد الأعمام، كما قال تعالى إخباراً بدعوة إبراهيم عليه السلام لولد إسماعيل: ﴿رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ﴾ [البقرة: ١٢٩]، وهو محمد عليه الصلاة والسلام، وكما قال في خطاب بني إسماعيل: ﴿لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنفُسِكُمْ﴾ [التوبة: ١٢٨].
وأما ما زعمته اليهود من أن المراد يوشع فتى موسى فهو باطل من وجوه: أولاً: أن المبشر به من إخوة بني إسرائيل، لا من نفس بني إسرائيل، ويوشع كان من نفس بني إسرائيل.
ثانياً: أن يوشع لم يكن مثل موسى عليه السلام؛ لما في آخر سفر التثنية في الإصحاح الرابع والعشرين: (ولم يقم بعد نبي في بني إسرائيل مثل موسى الذي عرف الرب وجهاً لوجه)، يعني: أنه لم يوجد بعد موسى في بني إسرائيل مثل موسى عليه السلام، في حين أن البشارة تقول: (أقيم لهم نبياً من وسط إخوتهم مثلك)، وما عرف بعد موسى أبداً نبي مثل موسى عليه السلام، حتى المسيح لما أتى قال: (ما جئت لأنقض موسى، ولكن جئت لأتمم) أي: أنه جاء مكملاً للرسالة، فالذي يستحق وصف (مثلك) ليس إلا محمداً صلى الله عليه وسلم، وهذا نلاحظه في القرآن الكريم، حيث نجد الربط المستمر بين موسى وبين محمد عليهما السلام، وبين أمة محمد وأمة موسى عليهما السلام، فمثلاً: في بداية سورة الإسراء قال عز وجل: ﴿سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا إِنَّه هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ * وَآتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَجَعَلْنَاهُ هُدًى لِبَنِي إِسْرَائِيلَ أَلَّا تَتَّخِذُوا مِنْ دُونِي وَكِيلًا﴾ [الإسراء: ١ - ٢]، وفي سورة القصص كثير جداً من الآيات، وفي سورة الأحقاف قال عز وجل: ﴿وَإِذْ صَرَفْنَا إِلَيْكَ نَفَرًا مِنَ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ فَلَمَّا حَضَرُوهُ قَالُوا أَنْصِتُوا فَلَمَّا قُضِيَ وَلَّوْا إِلَى قَوْمِهِمْ مُنْذِرِينَ * قَالُوا يَا قَوْمَنَا إِنَّا سَمِعْنَا كِتَابًا أُنْزِلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَى﴾ [الأحقاف: ٢٩ - ٣٠].
وجاء ورقة بن نوفل لما نزل الوحي على النبي عليه السلام في القصة المعروفة في باب الوحي، وفيها أنه قال: (هذا الناموس الذي أنزل على موسى)، وقال النجاشي: (إن هذا والذي جاء به موسى ليخرج من مشكاة واحدة)، فانظر كيف يأتي الربط بين موسى ومحمد عليهما الصلاة والسلام، لأنه مثله! وأيضاً في قصة المعراج جاء الربط بين الأمتين كما بينا، فالشاهد: أن عندهم نصّاً في آخر سفر التثنية: (ولم يقم بعد نبي في بني إسرائيل مثل موسى الذي عرفه الرب وجهاً لوجه)، ولأن موسى عليه السلام صاحب كتاب وشريعة جديدة مشتملة على أوامر ونواهٍ، ويوشع ليس كذلك، بل هو مأمور باتباع شريعة موسى، وأيضاً يوشع عليه السلام كان حاضراً هناك، وقد أشير إليه بالعبارة الصريحة قبل هذه، ففي الباب الأول من هذا السفر: (يسوع بن نون الواقف أمامك وهو يدخل إلى هناك أنه هو يختمها لإسرائيل.
ولا يحتمل بحال من الأحوال أن يكون قوله في هذه البشارة: (أقيم لهم نبياً من وسط إخوتهم مثلك، وأجعل كلامي في فمه فيكلمهم بكل ما أوصيه به).


الصفحة التالية
Icon