تفسير قوله تعالى: (يأمرهم بالمعروف وينهاهم عن المنكر ويحل لهم الطيبات)
وقوله تعالى: (يأمرهم بالمعروف) يحتمل أن يكون مستأنفاً، وأن يكون مفسراً لقوله: ((مَكْتُوبًا)) يعني: أنه يأمرهم بالمعروف إلى آخره.
وقوله تعالى: ((وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ)) الطيبات أعم من الطيبات في المأكل، يعني: ليست فقط الطيبات في المأكل، ولكن أيضاً تعم، كالشحوم تعم أيضاً البحائر والسوائب والوصائل والحامي، والطيبات في حكم الشريعة كالبيع وما خلا كسبه عن سحت، وكذا الخبائث هي ما يستخبث من نحو الدم والميتة ولحم الخنزير وما أهل لغير الله به، أو ما خبث في الحكم، كالربا والرشوة وغيرهما من المكاسب الخبيثة.
وقوله تعالى: ((يَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالأَغْلالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ)) فيه إشارة إلى أنه ﷺ جاء بالتيسير والسماحة، ومعروف أن الإسلام هو دين اليسر ودين السماحة، وهذه حقيقة تعلم من دين الإسلام بالضرورة، كما قال عز وجل: ﴿وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ﴾ [الحج: ٧٨]، وقال عز وجل: ﴿يُرِيدُ اللَّهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ وَيَهْدِيَكُمْ سُنَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَيَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ * وَاللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ أَنْ تَمِيلُوا مَيْلًا عَظِيمًا * يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ وَخُلِقَ الإِنسَانُ ضَعِيفًا﴾ [النساء: ٢٦ - ٢٨]، وقال عز وجل: ﴿فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا * إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا﴾ [الشرح: ٥ - ٦].
وقال صلى الله عليه وسلم: (أحب الدين إلى الله الحنيفية السمحة)، وقال عليه الصلاة والسلام: (إن هذا الدين متين)، (وإن هذا الدين يسر) وغير ذلك من النصوص القاطعة بأن هذا الدين دين اليسر والسماحة، بل إن التيسير من القواعد الأساسية في الشريعة الإسلامية، يقول عليه الصلاة والسلام: (بعثت بالحنيفية السمحة)، وقال عليه الصلاة والسلام لأميريه: معاذ وأبي موسى الأشعري رضي الله عنهما لما بعثهما إلى اليمن: (بشرا ولا تنفرا، ويسرا ولا تعسرا، وتطاوعا ولا تختلفا).
والإصر والأغلال استعارة لما كان في شرائعهم من التكاليف الشاقة، فمنها: تحريم طبخ الجدي بلبن أمه.
ومنها: نظام الأعياد التي يعيدونها لله في السنة، وهي عيد الفطير وعيد الحصاد وعيد المظالم، وكذلك عيد كل سنة لا يعمل فيه أدنى عمل، وكذلك سبت المزارع، ففي كل سابعة سبت للأرض لا يزرع فيها، ولا يقطف الكرم، بل تترك الأراضي عقلاً وغلات الكروم مأكلاً لفقراء شعبهم ووحوش البرية.
ومنها: أن من ضرب أباه أو أمه أو شتمهما أو تمرد عليهما وعصاهما يقتل حداً، وكذا من يعمل يوم السبت يقتل، ومن كان به جن يرجم بالحجارة حتى يموت، ومن تزوج فتاة فادعى أنه لم يجد لها عذرة ثم تبين كذبه يقتلان جميعاً، وإذا أمسكت امرأة عورة رجل تقطع يدها، وإذا نطح ثور رجلاً أو امرأة فمات المنطوح يرجم الثور، ولا يؤكل لحمه، ومن اضطجع مع امرأة صامت يقطعان من شعبهم، ومن طلق امرأته ثم تزوجت آخر وطلقها أو مات عنها فلا يجوز لزوجها الأول أن يتزوجها، وغير ذلك من الآصار التي تقدم ذكر بعضها في آخر سورة البقرة.
قال الجشمي: تدل الآية على أن شريعته ﷺ أسهل الشرائع، وأنه وضع عن أمته كل ثقل كان في الأمم السابقة، وذلك نعمة عظيمة على هذه الأمة.
وتدل على وجوب تعظيم الرسول صلى الله عليه وسلم، ونصره بالجهاد، ونصرته بنصرة دينه، وكل أمر يؤدي إلى توليد ما يتصل بذلك؛ لأن جميع ذلك من باب النصرة، وهذا لا يختص بعصره، فجميع ذلك لازم إلى انقضاء التكليف.
يعني: أن كل مسلم مطالب أن يكون من أنصار السنة، ومطالب أن ينصر النبي عليه الصلاة والسلام في حياته، وينصر سنته بعد وفاته، ولعل الجهاد بالبيان وإيراد الحجة ووضع الكتب وحل شبه المخالفين يزيد في كثير من الأوقات على الجهاد بالسيف، ولهذا قلنا: منازل العلماء في ذلك أعظم المنازل.
وقال العلامة البقاعي: لما تراسلت الآي وطال المدى في أقاصيص موسى عليه السلام وبيان مناقبه العظام ومآثره الجسام، وكان ذلك ربما أوقع في بعض النفوس أنه أعلى المرسلين منصباً وأعظمهم رتبة، ساق سبحانه وتعالى هذه الآيات هذا السياق على هذا الوجه الذي بين أعلاهم مراتب، وأزكاهم مناقب، الذي خص برحمته من يؤمن به من خلقه قوة أو فعلاً، وجعل سبحانه ذلك في أثناء قصة بني إسرائيل اهتماماً به وإكراماً له مع ما سيذكر مما يظهر أفضليته، ويوضح أكمليته في قصته مع قومه في مبدأ أمره وأوسطه ومنتهاه في سورة الأنفال وبراءة بأكملها، فكلها في بيان شأن النبي ﷺ مع قومه.
ثم قال البقاعي: لما تم ما نظمه تعالى في أثناء هذه القصص من جواهر أوصاف هذا النبي الكريم حث على الإيمان به؛ إيجاباً له على وجه علم منه أنه رسول الله إلى كل مكلف.
يعني: أن السياق والآيات طالت في شأن موسى عليه السلام والثناء عليه، فربما ظن ظان أن موسى أشرف الأنبياء، فبين الله سبحانه وتعالى في هذه الآية الكريمة في أثناء خطاب موسى عليه السلام مع قومه أن محمداً أشرف فقال: ((وَاكْتُبْ لَنَا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الآخِرَةِ إِنَّا هُدْنَا إِلَيْكَ قَالَ عَذَابِي أُصِيبُ بِهِ مَنْ أَشَاءُ وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ))، فانتقل السياق إلى مدح محمد عليه الصلاة والسلام، حتى الذين في زمن موسى كان عليهم أن يؤمنوا بمحمد؛ لأنه نزل في كتبهم بشارات بنبوته، فهم يؤمنون به بالقوة، يعني بغير العمل لكن بالقلب فقط، وبالتصديق، فأهل الكتاب مطالبون بالإيمان به إما بالقوة -يعني: بالتصديق بالبشارات التي أخبرت بنبوته قبل أن يوجد في هذا الوجود عليه الصلاة والسلام- وإما بالفعل إذا كانوا أحياءً بعد بعثته صلى الله عليه وسلم، فيجب عليهم الإيمان به، فلذلك نوهت الآيات بهذا الوصف العظيم للنبي عليه الصلاة والسلام إشارة إلى دفع هذا التوهم الذي قد يتوهمه بعض الناس من أن موسى أشرف رسل الله، فبين عز وجل أن أكمل وأعظم وأشرف رسل الله هو محمد صلى الله عليه وسلم.
يقول: ثم لما تم ما نظمه تعالى في أثناء هذه القصص من جواهر أوصاف هذا النبي الكريم حث على الإيمان به إيجاباً له على وجه علم منه أنه رسول الله إلى كل مكلف تقدم زمانه أو تأخر، أمره سبحانه أن يصرح بما تقدم التلويح إليه.
يعني: الإيمان كان واجباً على كل مكلف، سواء كان في الزمن الماضي أو في الزمن الآتي، فكل من كان قبل في الزمن الماضي من اليهود والنصارى مطالبون بالإيمان به، وذلك بالتصديق بالبشارات التي جاءت بوصفه في التوراة وفي الإنجيل، أو بالفعل بعد بعثته.
وهذا تلويح، ولكن أتى عز وجل مباشرة في الآية التي تليها بالتصريح بهذه الحقيقة وهو أنه رسول الله إلى الناس كافة عليه الصلاة والسلام، فصرح بما أخذ ميثاق الرسل عليه؛ تحقيقاً لعموم رسالته وشمول دعوته.


الصفحة التالية
Icon