تفسير قوله تعالى: (وإذا تتلى عليهم آياتنا قالوا قد سمعنا)
أخبر تعالى عن كفار قريش وعتوهم وتمردهم، ودعواهم الباطلة عند سماع آياته تعالى، فقال عز وجل: ﴿وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا قَالُوا قَدْ سَمِعْنَا لَوْ نَشَاءُ لَقُلْنَا مِثْلَ هَذَا إِنْ هَذَا إِلاَّ أَسَاطِيرُ الأَوَّلِينَ﴾ [الأنفال: ٣١].
قوله: ((وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا قَالُوا قَدْ سَمِعْنَا)) يعني: هذا الكلام ليس جديداً علينا؛ فقد سمعنا مثل هذا القرآن.
وقوله: ((لَوْ نَشَاءُ لَقُلْنَا مِثْلَ هَذَا)) أي: مثل هذا القرآن المتلو، وهذه غاية المكابرة ونهاية العناد؛ لأن الكافر يتحلى بصفة الغباء والإيغال في هذا الغباء، ومثال ذلك فرعون؛ فإن الواقع كان يكذبه تماماً ومع ذلك كان لا يستحي من المكابرة.
ومثال ذلك أيضاً المسيح الدجال الذي يخرج بهذه الأشياء التي يفعلها، ويدعي أنه هو الله سبحانه وتعالى، مع أن شكله الظاهر يثبت للناس كذبه، فإنه: أولاً: أعور العين، كما قال عليه الصلاة والسلام: (كأن عينه عنبة طافية)، وجاء في الحديث: (وإن الله ليس بأعور)، ومعاذ الله أن يشبه الله بخلقه، لكن المقصود أن العور عيب ظاهر، وهل الخالق الذي أعطى الخلق هذا الجمال الذي وزعه فيهم يعجز عن أن يجمل نفسه؟! نحن نتكلم من حيث الرد على المسيح الدجال، فهو أعور العين ويدعي أنه هو الله! لو كان هو الله -جدلاً- لدفع هذا العيب الخلقي عن نفسه.
ثانياً: أن المؤمن يقرأ على جبين المسيح الدجال كلمة (ك، ف، ر)، حتى المؤمن الأمي الذي لا يعرف القراءة والكتابة، وكذلك فرعون عيي غبي جاهل ركيك، ومع ذلك يقول: ﴿أَمْ أَنَا خَيْرٌ مِنْ هَذَا الَّذِي هُوَ مَهِينٌ وَلا يَكَادُ يُبِينُ﴾ [الزخرف: ٥٢]، فيصف موسى الذي هو أفصح الفصحاء أنه يحسن الكلام، ويقول: أنا الخطيب، ويقول: ﴿أَمْ أَنَا خَيْرٌ مِنْ هَذَا الَّذِي هُوَ مَهِينٌ وَلا يَكَادُ يُبِينُ﴾ [الزخرف: ٥٢].
ففرعون مع الدلائل الواضحة على هزيمته وضعفه وخيبته وقصوره البشري يقول: ﴿أَنَا رَبُّكُمُ الأَعْلَى﴾ [النازعات: ٢٤]، ويقول: ﴿مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرِي﴾ [القصص: ٣٨]، بل إن هذا الكبر والاستنكاف إنما قاله بعد ظهور الآيات التي تفضح كذبه، وتؤيد صدق موسى عليه السلام، ومع هذا يصل به الأمر إلى أن يتبع موسى وبني إسرائيل داخل البحر، مع أنه يرى هذه الآية! فالكافر دائماً يتحلى بالغباء، وممكن أن يكون عنده قدر من الذكاء، لكن يغلب عليه الغباء، وعمى البصيرة، فما عنده نور البصيرة ولا نور الإيمان.
فكذلك هؤلاء الذين يتكلمون هنا، كما قص الله سبحانه وتعالى خبرهم في هذه الآية: ((وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا قَالُوا قَدْ سَمِعْنَا لَوْ نَشَاءُ لَقُلْنَا مِثْلَ هَذَا))، فهذه غاية المكابرة ونهاية العناد؛ لأن القرآن الكريم يتحداهم من بداية الدعوة الإسلامية في مكة المكرمة، وإلى نهاية البعثة المحمدية والقرآن الكريم يتحدى هؤلاء المشركين الذين كانوا أفصح العرب على الإطلاق وأفصح الأمم، ولكن لم يستجب واحد منهم لهذا التحدي، وكل من تجاسر وحاول أن يستجيب للتحدي أتى بكلام يضحك منه العقلاء: الفيل ما الفيل، ذو ذنب قصير، وخرطوم طويل إلى غير ذلك من السخافات التي إذا سمعها الإنسان لم يتماسك من الضحك والاستهزاء بها.
فهذا منهم أيضاً من باب المكابرة، فهم مهزومون، والقرآن يتحداهم ليل نهار، ثم يقول أحدهم: أنا لو أريد أن أكتب مثل القرآن لفعلت، فهذه غاية المكابرة والعناد، كيف لا، ولو استطاعوا شيئاً من ذلك فما الذي كان يمنعهم من أن يشاءوا ويفعلوا وقد تحدوا غير ما مرة أن يأتوا بسورة من مثله؟ وليس هذا فحسب، بل قال عز وجل: ﴿فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ وَادْعُوا شُهَدَاءَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ﴾ [البقرة: ٢٣]، فانظر التحدي والإعجاز، ثم قال: ﴿فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا﴾ [البقرة: ٢٤].
فقد كانت هذه فرصة حتى يثبتوا كذب الرسول عليه السلام، لكنهم لم يفعلوا وهذه من أوضح أدلة إعجاز القرآن الكريم، فإنه ذكر عجزهم عن فعل ذلك حتى في المستقبل، فلا شك أنهم لو قدروا على ذلك لاستجابوا للتحدي، لكن وقع ما أخبر الله سبحانه وتعالى به، فكان أعظم آية على أن القرآن كلام الله عز وجل.
يقول: فما الذي كان يمنعهم من المشيئة وقد تحدوا غير ما مرة أن يأتوا بسورة من مثله، وقُرِّعوا على العجز، وذاقوا من ذلك الأمرين، ثم قورعوا بالسيف، فلم يعارضوا بما سواه مع فرط أنفتهم واستنكافهم أن يغلبوا، خصوصاً في باب البيان الذي هم فرسانه المالكون لأزمته، وغاية اجتهادهم به، أي: بالبيان والبلاغة والفصاحة، ومع ذلك عجزوا.
وقوله: ((إِنْ هَذَا إِلَّا أَسَاطِيرُ الأَوَّلِينَ)) أي: ما سطروه وكتبوه من القصص، فالقرآن هذا -في زعمهم- عبارة عن أساطير الأولين، كما يحاول كثير من المنصرين إشاعة أن القرآن عبارة عن قصص مؤلفة عن التوراة والإنجيل، وهذا كذب صراح، ولا يقوله إلا إنسان جاهل جهلاً فاحشاً؛ لأن القصص القرآني مهيمن على ما عداه، فالقرآن لا يحاكي أبداً في قصصه ما وجد في التوراة والإنجيل، وإنماهو مهيمن ومصحح لما افتراه اليهود والنصارى على الله سبحانه وتعالى، وما افتروه على أنبياء الله، فالقرآن ليس محاكياً، وإنما هو مهيمن على ما سبقه من الكتب.
وقوله: ((أَسَاطِيرُ)) جمع لا واحد له، وقيل: هو جمع أسطر وسطور وأسطار، وهي جموع سطر، وكأنه جمع الجمع، وقيل: هو جمع أسطورة، كأحدوثة، والأصل في السطر الخط والكتابة، يقال: سطر، أي: كتب، ويطلق على السطر من الشيء، كالكتاب والشجر.
وقوله: ((قَدْ سَمِعْنَا لَوْ نَشَاءُ لَقُلْنَا مِثْلَ هَذَا إِنْ هَذَا إِلَّا أَسَاطِيرُ الأَوَّلِينَ))، روي أن قائله النضر بن الحارث بن كلدة، وأنه كان قد ذهب إلى بلاد فارس، وجاء منها بنسخة حديث رستم واسفنديار ولما قدم ووجد رسول الله ﷺ قد بعثه الله، وهو يتلو على الناس ما قصه الله تعالى من أحاديث القرون، قال: لو شئت لقلت مثل هذا، فزعم أنه مثل الأساطير التي أتى بها من هناك، وكان عليه الصلاة والسلام إذا قام من مجلس جلس فيه النضر فحدثهم من متلقفاته، ثم يقول: بالله أينا أحسن قصصاً أنا أو محمد وقد أمكن الله تعالى منه يوم بدر، وأسره المقداد، ثم أمر ﷺ به فضربت عنقه.
وإذا صح هذا الأثر الذي فيه أن قائل ذلك هو النضر بن الحارث، فاللفظ الكريم فيه نسبة الكلام إلى المجموع لا إلى واحد، وإسناد قوله إلى الجميع، إما لرضا الباقين به، أو لأن قائله كبير متبع، فهو رمز لمن يتبعونه.
وقد كان اللعين قاصهم الذي يعلمهم الباطل ويقودهم إليه ويغرهم بمثل هذه الجعجعة.