تفسير قوله تعالى: (واذكروا إذ أنتم قليل مستضعفون في الأرض)
فقال عز وجل: ﴿وَاذْكُرُوا إِذْ أَنْتُمْ قَلِيلٌ مُسْتَضْعَفُونَ فِي الأَرْضِ تَخَافُونَ أَنْ يَتَخَطَّفَكُمْ النَّاسُ فَآوَاكُمْ وَأَيَّدَكُمْ بِنَصْرِهِ وَرَزَقَكُمْ مِنْ الطَّيِّبَاتِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ﴾ [الأنفال: ٢٦].
ثم نبه تعالى عباده المؤمنين من السابقين الأولين على نعمه عليهم؛ لأن الراجح أن الخطاب في الآية إنما هو للمهاجرين الأولين خاصة، فقد ذكرهم عز وجل بنعمه عليهم وإحسانه إليهم، حيث كانوا قليلين فكثرهم، ومستضعفين خائفين فقواهم ونصرهم، ورزقهم من الطيبات؛ ذكرهم بذلك ليشكروه بدوام طاعتهم واستمرارهم على طاعة الله سبحانه وتعالى.
((وَاذْكُرُوا)) أي: يا معشر المهاجرين! فالخطاب -على الراجح- للمهاجرين.
((إِذْ أَنْتُمْ قَلِيلٌ)) يعني: إذ كنتم قليلي العدد، ((مُسْتَضْعَفُونَ فِي الأَرْضِ)) أي: مقهورون في أرض مكة قبل الهجرة تستضعفكم قريش.
وقوله: ((تَخَافُونَ أَنْ يَتَخَطَّفَكُمُ النَّاسُ)) إذا قلنا إن الخطاب للمهاجرين الأولين فالناس هم أهل مكة، وتخطفه واختطفه بمعنى: استلبه وأخذه بسرعة، فإذا أخذ أحد الشيء بسرعة يقال: تخطفه أو اختطفه.
((فَآوَاكُمْ)) أي: بعد هذا الاضطهاد والاستضعاف آواكم إلى المدينة المنورة دار الهجرة.
((وَأَيَّدَكُمْ بِنَصْرِهِ)) يعني: أعانكم وقواكم يوم بدر بنصره، وأما كيف قواكم؟ وكيف أتاكم نصره؟ فبمظاهرة الأنصار؛ لينصروا الدعوة، وبإمداد الملائكة، وبالتثبيت الرباني.
((وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ)) الطيبات هنا الغنائم؛ لأن الغنائم كانت من قبل محرمة على الأمم كلها، ولم تحل لأحد إلا لهذه الأمة، كما قال صلى الله عليه وسلم: (وأحلت لي الغنائم ولم تحل لأحد قبلي).
((لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ)) المولى على ما تفضل به وأولى.
يقول القاسمي رحمه الله تعالى: وما ذكرنا من كون الخطاب في الآية للمهاجرين خاصة هو أنسب للمقام، والسياق يشعر به.
وهناك قول آخر: أن الخطاب للعرب كافة، فقوله: ((وَاذْكُرُوا)) يعني: أيها العرب! ((إِذْ أَنْتُمْ قَلِيلٌ)) يعني: بالنسبة للأمم الأخرى كالفرس والروم، ((مُسْتَضْعَفُونَ فِي الأَرْضِ تَخَافُونَ أَنْ يَتَخَطَّفَكُمُ النَّاسُ فَآوَاكُمْ وَأَيَّدَكُمْ بِنَصْرِهِ وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ))، والناس المقصود بهم الأمم من حول العرب.
وقد أيد هذا التفسير بقول قتادة بن دعامة السدوسي رحمه الله تعالى في هذه الآية، قال: كان هذا الحي من العرب أذل الناس وأشقاه عيشاً، وأجوعه بطوناً، وأعراه جلوداً، وأثبته ضلالاً والله ما نعلم قبيلاً من حاضر أهل الأرض يومئذٍ كانوا أشر منزلاً منهم حتى جاء الله تعالى بالإسلام، فمكن به في البلاد، ووسع به في الرزق، وجعلهم به ملوكاً على رقاب الناس، وبالإسلام أعطى الله ما رأيتم، فاشكروا الله على نعمه، فإن ربكم منعم يحب الشكر، وأهل الشكر في مزيد من الله عز وجل.
هذه عبارة قتادة بن دعامة في تأييد أن المقصود بهذه الآية الكريمة العرب عامة بالنسبة لغيرهم من الأمم في ذلك الزمان.


الصفحة التالية
Icon