تفسير قوله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا لا تخونوا الله والرسول وتخونوا أماناتكم وأنتم تعلمون)
ثم قال عز وجل: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَخُونُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُوا أَمَانَاتِكُمْ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ﴾ [الأنفال: ٢٧].
لما ذكرهم تعالى بإسباغ نعمه عليهم ليشكروه، وكان من شكره الوقوف عند حدوده، بين لهم ما يحذر منها، فبين أن من شكره عز وجل الكف عن المعاصي والوقوف عند حدود الله عز وجل، ولذلك قال: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَخُونُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُوا أَمَانَاتِكُمْ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ﴾، ويدخل في خيانة الله تعطيل فرائضه، ومجاوزة حدوده، ويدخل في خيانة رسوله صلى الله عليه وآله وسلم رفض سنته، وإفشاء سره للمشركين.
وقوله: ((وَتَخُونُوا أَمَانَاتِكُمْ)) من خيانة الأمانة الغلول من المغانم، وخيانة كل ما يؤتمن عليه الناس من مال أو أهل أو سر، وكل ما تعبدوا به.
وقد روي في نزول الآيات شيء مما ذكرنا، ولفظ الآية مطلق يتناوله وغيره، ومن ذلك ما رواه سعيد بن منصور عن عبد الله بن أبي قتادة قال: نزلت في أبي لبابة رضي الله عنه حين حاصر رسول الله ﷺ بني قريظة، وأمرهم أن ينزلوا على حكم سعد بن معاذ رضي الله عنه، فاستشار بنو قريظة أبا لبابة في النزول على حكم سعد.
وكان أهل أبي لبابة وأمواله فيهم.
أي: كانت تجارته وأمواله وأولاده وأهله مع اليهود، وله مصالح عندهم.
يعني: أشار إلى حلقه، يعني: أنه الذبح، قال أبو لبابة: (ما زالت قدماي حتى علمت أني خنت الله ورسوله عليه الصلاة والسلام).
يعني: أنه ما تحول عن موضعه الذي كان فيه حتى أفاق إلى نفسه وانتبه، وعرف أنه بهذه الإشارة قد خان الله ورسوله؛ لأنه أفشى سر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وخان الأمانة، ثم حلف فوراً في الحال ألا يذوق ذواقاً حتى يموت أو يتوب الله عليه، وانطلق إلى المسجد، فربط نفسه بسارية، فمكث أياماً حتى كان يخر مغشياً عليه من الجهد، ثم أنزل الله توبته، وحلف لا يحله إلا رسول الله ﷺ بيده، فحله، فقال: (يا رسول الله! إني كنت نذرت أن أنخلع من مالي صدقة)، يعني: تكفيراً عن هذه المعصية، وشكراً لله أن تاب الله عليه.
فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: (يجزيك الثلث أن تصدق به)، أي: لا تتصدق بكل مالك.
قال بعض المفسرين: دل هذا السبب -سبب نزول الآية- على جواز إظهار الجزع على المعصية، أي: أنه يجوز للإنسان إذا وقع في معصية أن يظهر الجزع والتألم الشديد لهذه المعصية، وإتعاب النفس وتوبيخها، ويجوز أيضاً أن يعاقب الإنسان نفسه بأن يلزمها بما فيه مشقة عليها، توبيخاً لها على المعصية، والشاهد أن النبي ﷺ لم ينكر على أبي لبابة رضي الله تعالى عنه ما فعله بنفسه.
ودل على أنه يستحب إتباع المعصية بالصدقة، فالإنسان إذا بدرت منه معصية وفرط منه ذنب فيستحب أن يبادر بأن يتبعه بالحسنة، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (وأتبع السيئة الحسنة تمحها)، بل كما قال الله عز وجل في سورة هود: ﴿وَأَقِمْ الصَّلاةَ طَرَفِي النَّهَارِ وَزُلَفاً مِنْ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ ذَلِكَ ذِكْرَى لِلذَّاكِرِينَ﴾ [هود: ١١٤]، فمن كفارة السيئات أن يتبعها الإنسان بأعمال صالحة، ومن هذه الحسنات الصدقة، كما في قصة أبي لبابة رضي الله تعالى عنه.
وفي هذه الآية: نهي عن أي معصية، فأي معصية هي خيانة لله ولرسوله صلى الله عليه وسلم، فتضييع الزكاة خيانة لله والرسول وللأمانة، وتضييع الصلاة، وإطلاق البصر إلى الحرام، كل هذه تدخل في الخيانة؛ لأن الأمانة هي التكاليف الشرعية، كما قال تعالى: ﴿إِنَّا عَرَضْنَا الأَمَانَةَ عَلَى السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَالْجِبَالِ﴾ [الأحزاب: ٧٢] إلى آخر الآية، فتضييع هذه الأمانات من الخيانة، كما أوضحت هذه الآية الكريمة.
وفيها دليل على أن ذنب العالم أعظم من غيره؛ لقوله: ((وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ))، يعني: لا يستوي من علم أن هذا حرام مع من لم يعلم أن هذا حرام، فإذا قامت حجة الله سبحانه وتعالى عليك بالعلم والهدى من الوحيين الشريفين، فعليك أن تعمل بما علمت، وإلا فلو تجاسرت على انتهاك حدود الله سبحانه وتعالى، وارتكاب المعاصي وأنت تعلم، فالتوبيخ في حقك يكون أشد؛ لأن من يأتي المعصية عن علم ليس كمن يأتيها عن جهل.
ففي قوله تعالى: ((لا تَخُونُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُوا أَمَانَاتِكُمْ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ)) دليل على أن ذنب العالم أعظم من غيره؛ لأن المعنى: ((وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ)) أي: تعلمون تبعة ذلك ووباله.


الصفحة التالية
Icon