تفسير قوله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا إذا لقيتم فئة فاثبتوا)
ثم أرشد تبارك وتعالى عباده المؤمنين إلى آداب اللقاء في ميدان الوغى ومبارزة الأعداء، فقال سبحانه وتعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ﴾ [الأنفال: ٤٥].
يعني: إذا حاربتم جماعة فاثبتوا للقائهم، واصبروا على مبارزتهم، فلا تفروا ولا تجبنوا.
((إذا لقيتم فئة فاثبتوا)) عبر عن الحرب باللقاء، تغليباً على النزال، ولم يصف الفئة بأنها كافرة؛ لأن هذا معلوم غير محتاج إليه، والمؤمنون لا يقاتلون إلا في سبيل الله، فمتى حاربوا فئة فهم يحاربونها في سبيل الدين، ولذا لابد أن تكون كافرة.
وقوله: ((فاثبتوا واذكروا الله كثيراً)) يعني: فاثبتوا في مواطن الحرب مستظهرين بذكره مستنصرين به داعين له على عدوكم، فذكر الله سبحانه وتعالى يعطي قوة للأرواح، ويعطي قوة للأبدان أيضاً، وأدلة ذلك كثيرة.
وقوله: ((لعلكم تفلحون)) يعني: إن ثبتم واستعنتم بذكر الله سبحانه وتعالى كثيراً في مثل هذا الموقف فإنكم تنصرون، ومتى ما تخلى المسلمون عن ذلك فأنى لهم النصر؟! ففي نكسة عام (١٩٦٧م) كان أمراً طبيعياً جداً أن يحصل ما حصل من الهزيمة؛ لأنه لم يكن هناك شيء اسمه ذكر الله سبحانه وتعالى، بل كانوا يوزعون على الجنود في ثكنات القتال صور الممثلات وصور الفنانات! ويقولون للجندي: اضرب فـ أم كلثوم معك في المعركة! اضرب ففلانة معك في المعركة! وكانت أولاء وكان هؤلاء الفاسقات يذهبن إلى صفوف الجبهة لرفع الروح المعنوية! فقوله: ((يا أيها الذين آمنوا إذا لقيتم فئة فاثبتوا واذكروا الله كثيراً لعلكم تفلحون)) يعني: تظفرون بمرادكم من النصرة والمثوبة، وقد ثبت في الصحيحين عن عبد الله بن أبي أوفى رضي الله عنه: (أن رسول الله ﷺ في بعض أيامه التي لقي فيها العدو انتظر حتى مالت الشمس، ثم قام في الناس فقال: يا أيها الناس! لا تتمنوا لقاء العدو، وسلوا الله العافية، فإذا لقيتموهم فاصبروا، واعلموا أن الجنة تحت ظلال السيوف، ثم قال: اللهم منزل الكتاب ومجري السحاب وهازم الأحزاب، اهزمهم وانصرنا عليهم).
وفي الآية إشعار بأن على العبد ألا يفتر عن ذكر ربه أشغل ما يكون قلباً وأكثر ما يكون هماً، وأن يلتجئ إليه عند الشدائد، ويقبل إليه بكليته فارغ البال واثقاً بأن لطفه لا ينفك عنه في حال من الأحوال.
وكما قلنا مراراً: العبادة الوحيدة التي لم تقيد بوقت هي ذكر الله سبحانه وتعالى، والتي حرضنا على الإكثار منها في كل وقت وفي كل حال، فقد كان ﷺ يذكر الله على كل أحواله وفي كل أحيانه.
وقال عز وجل: ﴿الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ﴾ [آل عمران: ١٩١]، فالإنسان لا يخرج عن حالة من هذه الحالات: إما قائم، وإما قاعد، وإما نائم، فالمقصود بذلك ذكر الله على أي حال كنت، لا كما يفهمها الصوفية أن كونها قياماً أو قعوداً هو القفز والنط، بأن يكون واقفاً ثم يرمي نفسه في الأرض ثم يميل وهكذا، فهذا التلوي وهذه الأفعال إلحاد في آيات الله سبحانه وتعالى وانحراف في فهمها، إنما المقصود: اذكروا الله على كل حال تكونون عليه من الوقوف أو القعود أو الرقود.
فلو كان الاشتغال والهم والمشاغل عذراً في الغفلة عن ذكر الله سبحانه وتعالى لكان القتال كذلك، لكن انظر كيف يحرضهم الله سبحانه وتعالى على كثرة الذكر في أشد الأحوال وفي أعظم الأهوال، وهي حالة الاقتتال والالتحام المسلح بأعداء الله سبحانه وتعالى، فعلى العبد ألا يفتر عن ذكر ربه، لقوله عز وجل: ((وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا))، وقال عز وجل: ﴿وَالذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيرًا وَالذَّاكِرَاتِ﴾ [الأحزاب: ٣٥].


الصفحة التالية
Icon