تفسير قوله تعالى: (فلا تعجبك أموالهم ولا أولادهم)
لما بين تعالى قبائح أفعال المنافقين، وما لهم في الآخرة من العذاب المهين، وعدم قبول نفقاتهم؛ ببيان أن ما يظنونه من منافع الدنيا هو في الحقيقة سبب لعذابهم وبلائهم، فهم يبخلون بالمال لحرصهم على الدنيا، ويتمتعون بهذه الدنيا، ويظنون أن من الكياسة والذكاء أنهم يتنعمون بهذه الدنيا بهذه الطريقة؛ فبين تعالى وجلَّى تمام الانجلاء أن النفاق سبب الخسارة، لجلبه آفات الدنيا والآخرة، فقال سبحانه وتعالى: ﴿فَلا تُعْجِبْكَ أَمْوَالُهُمْ وَلا أَوْلادُهُمْ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ بِهَا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَتَزْهَقَ أَنفُسُهُمْ وَهُمْ كَافِرُونَ﴾ [التوبة: ٥٥].
(فلا تعجبك أموالهم ولا أولادهم)، وهذا هو الواقع، فعامة المفتونين بالكفار إنما يفتنون بهم بسبب الدنيا لا بسبب أي شيء آخر، وعامة الذين يفتنون بالكفار أغلب أسباب فتنتهم بالدنيا، وبما معهم من مال، وقوة، وانطلاق في الأرض، أو غير ذلك من أعراض الدنيا، لكن هل هناك من يفتن بهم لأنهم يعبدون الله، أو لأنهم موحدون لله، أو لأنهم ملتزمون بالإسلام؟ كلا، فينبغي أن تصحح المقاييس والمفاهيم في النظر لهؤلاء الأراذل من أعداء الدين وأعداء الله ورسوله صلى الله عليه وسلم.
(فلا تعجبك أموالهم ولا أولادهم)؛ لأن ما هم فيه من النعمة أو المال والأولاد إنما هو استدراج لهم، كما قال تبارك وتعالى: ﴿وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لِأَنْفُسِهِمْ إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُوا إِثْمًا وَلَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ﴾ [آل عمران: ١٧٨].
(إنما يريد الله ليعذبهم بها في الحياة الدنيا) أي: بسبب ما يكابدون لجمعها، فهم يتعبون في تحصيل المال، ثم يتعبون ويكدون في حفظها، فيتعذبون بتحصيل المال، ويتعذبون بحمايته، ويعانون فيها من الشدائد والمصائب ما الله به عليم.
(إنما يريد الله ليعذبهم)، قيل: اللام هنا زائدة، وقيل: المفعول محذوف، يعني: أن اللام تعليلية: إنما يريد الله إعطاءهم ليعذبهم، كما قال ابن القيم رحمه الله تعالى: قضى الله سبحانه وتعالى قضاءً لا يرد: أن من أحب شيئاً سواه عذب به ولابد.
فالله سبحانه وتعالى يعذبهم بها، وفعلاً لو أخذنا نتحدث في جزئية من هذه الآية، وهي: تعذيب الكافر بأولاده، ولو تأملتم أحوال الكفار في بلادهم، ستجدون أن أغلب هؤلاء الكفار يعذبون بأولادهم أشد العذاب، وقد يصل إلى القتل، والعقوق الذي لا عقوق بعده، وصار هذا الأمر متوارثاً، وهؤلاء يستدينون ديناً سابقاً، فهؤلاء الآباء من قبل عقوا آباءهم، فيعذبون -فعلاً- بأولادهم أشد أنواع العذاب.
((وَتَزْهَقَ أَنفُسُهُمْ وَهُمْ كَافِرُونَ)) يعني: يموتون كافرين لاهين بالتمتع بالدنيا عن النظر في العاقبة، فيكون ذلك استدراجاً لهم، كما قال تعالى: ﴿فَذَرْنِي وَمَنْ يُكَذِّبُ بِهَذَا الْحَدِيثِ سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لا يَعْلَمُونَ * وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ﴾ [القلم: ٤٤ - ٤٥]، وأصل كلمة الزهوق: الخروج بصعوبة، (وتزهق أنفسهم) أي: تخرج أرواحهم من عروقهم ويعذبون أثناء خروجها، كما هو معروف في الحديث.
(وهم كافرون)، وهذه مصيبة أكبر؛ أن يموت إنسان على الكفر والعياذ بالله، ولو مات على الكفر انتهى كل شيء، فيخلد في جهنم أبد الآباد، ﴿لا يَمُوتُ فِيهَا وَلا يَحْيَا﴾ [طه: ٧٤].