علو مقام النبي عليه الصلاة والسلام عند ربه عز وجل
اعلم أن في تصديره تعالى فاتحة الخطاب ببشارة العفو دون ما يوهم العتاب من مراعاة جانبه صلى الله عليه وسلم، وتعهده بحسن المفاوضة، ولطف المراجعة؛ ما لا يخفى على أولي الألباب، وهذا في غاية التلطف والعناية من الله سبحانه وتعالى برسوله صلى الله عليه وسلم؛ فإن الله سبحانه وتعالى علم أنه لو جابه خليله ﷺ بالعتاب ربما ذهبت نفسه شفقة من هذا العتاب، لو قال له: لماذا أذنت لهم؟ لانشق قلبه ﷺ فزعاً وجزعاً، فمن لطف الله سبحانه وتعالى به، ومحبته لنبيه صلى الله عليه وسلم، طمأنه أولاً فقال: (عفا الله عنك)، يعني: ما سيأتي من العتاب معفو عنك فيه فلا تجزع؛ تلطفاً بالنبي صلى الله عليه وسلم، ورعاية لجانبه عليه الصلاة والسلام.
(عفا الله عنك لم أذنت لهم)، كي يطمئنه أولاً، كي لا يجزع النبي صلى الله عليه وآله وسلم، (عفا الله عنك)؛ فبشره أولاً بالعفو دون أن يأتي بما يوهم العتاب.
قال سفيان بن عيينة: انظروا إلى هذا اللطف! بدأ بالعفو قبل ذكر المعفو، وهذه الآية من المواضع التي يتكلم فيها المصنفون في الخصائص النبوية، والتي يتحدثون فيها عما اختص الله به نبيه ﷺ من الخصائص في القرآن والسنة، فهذه من خصائص القرآن الكريم، وفيها بيان علو مقام النبي صلى الله عليه وآله وسلم عند ربه عز وجل.
وقال بعض المفسرين: (عفا الله عنك) في افتتاح الكلام كما تقول: أصلحك الله وأعزك.
وقال الداودي: إنها تكرمة، ويؤيد ذلك قول علي بن الجهم وهو يخاطب المتوكل وقد أمر بنفيه: عفا الله عنك ألا حرمة تعود بعفوك أن أبعدا ألم تر عبداً عدا طوره ومولى عفا ورشيداً هدى أقلني أقالك من لم يزل يقيك ويصرف عنك الردى وما اشتهر من كون العفو لا يكون إلا عن ذنب؛ غير صحيح، فهذه من المواضع التي زل فيها الزمخشري، بل ضل، وبنى كلامه على أن العفو لا يكون إلا عن ذنب، فالواجب تفسير كلمة العفو في كل مقام بما يناسبه.
قال الشهاب: وعبارة: (عفا الله عنك) تستعمل حيث لا ذنب، ولا تعني وقوع ذنب، كما تقول لمن تعظمه: عفا الله عنك ما صنعت في أمري؟ هذا شخص تعظمه ومع ذلك تقول له: عفا الله عنك، فلا يستلزم ذلك أنه يكون قصر في حقك أو أذنب، وإنما هذه تكون في المخاطبات، وفي الحديث: (عجبت من يوسف وصبره وكرمه والله يغفر له)، يقول المحقق: لم أقف على هذا الحديث.
وقال السخاوندي: هو تعليم لتعظيمه صلى الله عليه وسلم، يعني: المقصود من هذا السياق: تعليم الأمة كيفية تعظيم النبي صلى الله عليه وسلم؛ لأنه إذا كان ربه عز وجل يخاطبه هذه المخاطبة، ويتلطف به هذا التلطف؛ فعلينا أيضاً أن نلزم هذا الأدب في مقامه وجنابه صلى الله عليه وآله وسلم، ولولا تصدير العفو في الخطاب لما قام بصولة العتاب.
وقال القاضي عياض في الشفا في التعريف بحقوق المصطفى، وهذا كتاب من الكتب الأساسية، ولا يليق أبداً بطالب علم أن يفرط فيه، كما أن طالب العلم لا يليق به أنه لا يقرأ في رياض الصالحين، والأذكار النووية، وزاد المعاد، وهذه الكتب من الطبيعي جداً لطالب العلم أن يمر عليها، ولا يليق به أبداً أن يمر عمره دون أن يطلع على هذه المجموعة من الكتب.
يقول القاضي عياض: وأما قوله تعالى: ﴿عَفَا اللَّهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنتَ لَهُمْ﴾ [التوبة: ٤٣]، فأمر لم يتقدم للنبي ﷺ فيه من الله نهي فلا يعد معصية، ولم لا يعد معصية؟ لأنها لا تكون معصية إلا إذا تقدم فيما مضى نهي خالفه النبي عليه الصلاة والسلام بذلك، وكون هذا الفعل لم يتقدمه نهي فيبعد أن يكون معصية، والله سبحانه وتعالى لم يعدها عليه معصية، بل لم يعده أهل العلم معاتبة، وغلطوا من ذهب إلى ذلك، وحتى القول بأنها معاتبة اعترض عليه بعض العلماء وقالوا: هذه ليست معاتبة.
قال نفطويه: وقد حاشاه الله من ذلك، بل ما كان مخيراً في أمرين، وقد كان له أن يفعل ما يشاء فيما لم ينزل عليه وحي، فما دام لم ينزل وحي ينهاه عن الإذن لهؤلاء المنافقين فهو بالخيار في ذلك صلى الله عليه وآله وسلم، كيف وقد قال تعالى: ﴿فَأْذَنْ لِمَنْ شِئْتَ مِنْهُمْ﴾ [النور: ٦٢]؟! فأيدوا بهذه الآية القول بأنه لا عتاب، حتى العتاب غير مقصود في هذه الآية، كيف ولم يتقدم وحي ينهاه؟ ثم أيضاً الله سبحانه وتعالى خيره فقال: (فأذن لمن شئت منهم)، فلما أذن لهم أعلمه الله سبحانه وتعالى بما لم يطلع عليه من سرهم، ولو لم يأذن لهم لقعدوا لنفاقهم، فالآن هم يتسترون وراء إذن النبي عليه السلام، فالله سبحانه وتعالى بين لنبيه أنهم أضمروا شراً، وعزموا بالفعل على التخلف، فلو لم تأذن لهم لافتضحوا وظهر هذا الذي معهم، وهم في الحالتين سواء أذنت لهم أو لم تأذن لهم ما كانوا ليخرجوا، وقد عقدوا قلوبهم على التخلف.
يقول: فلما أذن لهم أعلمه الله بما لم يطلع عليه من سرهم، وأنه لو لم يأذن لهم لقعدوا لنفاقهم، وأنه لا حرج عليه فيما فعل، وليس عفا هنا بمعنى: غفر، بل كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (عفا الله لكم عن صدقة الخيل والرقيق)، ولم تجب عليهم قط، يعني: لم يلزمهم ذلك، وهذا الحديث رواه ابن ماجة.
ونحوه للقشيري قال: وإنما يقول: العفو لا يكون إلا عن ذنب.
من لم يعرف كلام العرب، وهذا تعريض بـ الزمخشري؛ لأنه هو الذي قال هذه العبارة، قال: ومعنى عفا الله عنك أي: لم يلزمك ذنباً، وقد عد ما وقع في الكشاف هنا من قبيح سقطاته، ومن عورات الكشاف للزمخشري في هذه الآية أنه عبر هذا التعبير الذي رفضه العلماء حينما قال: إن العفو لا يكون إلا عن ذنب.
وللعلامة أبي السعود مناقشة معه في ذلك، أوردها لبلوغها الغاية في البلاغة، قال رحمه الله: ولقد أخطأ وأساء الأدب، وبئسما فعل فيما قال وكتب من زعم أن الكلام كناية عن الجناية، وأن معناه أخطأ وبئسما فعل، هب أنه كناية، أليس إيثاره على التصريح بالكناية للتلطيف في الخطاب والتخفيف في العتاب؟! يعني: حتى لو كانت جناية ألا تلاحظ التلطف هنا في هذا، فكيف يعبر هذا التعبير القبيح؟ لأن هذا لا يليق في حق النبي صلى الله عليه وسلم.
وهب أن العفو مستلزم لكونه من القبيح، واستتباع اللائمة، بحيث هذه المرتبة من المشافهة بالسوء، أو يسوغ إنشاء الاستقباح بكلمة بئسما -وهو في التفسير قال: بئسما- أيجوز استعمال هذه العبارة المنبئة عن بلوغ القبح إلى ردة يتعجب منها؟ لأن بئس هذه يتعجب فيها بالذم، فأين هو في قوله: بئسما ما فعلت، من تعظيم الله سبحانه وتعالى نفسه لنبيه وتلطفه معه في الخطاب؟! ولا يخفى أنه لم يكن في خروجهم مصلحة للدين، أو منفعة للمسلمين، بل كان فيه فساد وخبال، حسبما نطق به قوله عز وجل: ﴿لَوْ خَرَجُوا فِيكُمْ مَا زَادُوكُمْ إِلَّا خَبَالًا وَلَأَوْضَعُوا خِلالَكُمْ يَبْغُونَكُمُ الْفِتْنَةَ﴾ [التوبة: ٤٧]، وقد كرهه الله سبحانه وتعالى، أي: أن خروجهم كان مبغوضاً لله؛ لأن الله سبحانه وتعالى قال: ﴿وَلَكِنْ كَرِهَ اللَّهُ انْبِعَاثَهُمْ فَثَبَّطَهُمْ﴾ [التوبة: ٤٦]، فقد كان الأولى تأخير الإذن حتى يظهر كذبهم آثر ذي أثير يعني: أول كل شيء، كان يبدو من الأول، ويفتضحون من أول كل شيء، نعم كان الأولى تأخير الإذن، حتى يفتضحوا على رءوس الأشهاد، ولا يتمكنوا من التمتع بالعيش بالأمن والدعة، ولا يتسنى لهم الابتهاج فيما بينهم؛ لأنهم غروه ﷺ وأرضوه بالأكاذيب، على أنه لم يهنأ لهم عيش ولا قرت لهم عين، إذ لم يكونوا على أمن واطمئنان، بل كانوا على خوف من ظهور أمرهم وقد كان.
قال الخفاجي: وحاول بعضهم توجيه كلام الكشاف بأن مراده أن الأصل فيه ذلك.
بعضهم يحاولون أن يخففوا من الخطأ الذي ارتكبه الزمخشري فقالوا: إنه يقصد أن الأصل في استعمال هذا التعبير: (عفا الله عنك) أنه يكون فيما يكون فيه جناية، فأبدله بالعفو تعظيماً لشأنه، وإذا قدم العفو على ما يوجب الجناية فلا خطأ فيه، قال رحمه الله: ولو اتقى هو والموجه موضع التهم كان أولى وأحرى.