تفسير قوله: (يحذر المنافقون أن تنزل عليهم سورة)
قال تعالى: ﴿يَحْذَرُ الْمُنَافِقُونَ أَنْ تُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ سُورَةٌ تُنَبِّئُهُمْ بِمَا فِي قُلُوبِهِمْ قُلِ اسْتَهْزِئُوا إِنَّ اللَّهَ مُخْرِجٌ مَا تَحْذَرُونَ﴾ [التوبة: ٦٤] أي: في شأنهم؛ لأن ما نزل في حقهم نازل عليهم، والرسول عليه الصلاة والسلام هو الذي ينزل عليه الوحي، كما قال الله: ﴿قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ﴾ [النحل: ١٠٢]، فالله سبحانه وتعالى هو الذي نزل الوحي على النبي صلى الله عليه وآله وسلم، فمعنى: (أن تنزل عليهم) أي: أن تنزل في شأنهم وحقهم ((سُورَةٌ تُنَبِّئُهُمْ بِمَا فِي قُلُوبِهِمْ))، من الأسرار الخفية فضلاً عما كانوا يظهرونه فيما بينهم من أقاويل الكفر والنفاق.
((يَحْذَرُ الْمُنَافِقُونَ أَنْ تُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ سُورَةٌ تُنَبِّئُهُمْ بِمَا فِي قُلُوبِهِمْ))؛ لأن ألفاظهم منها ما يخفونه ومنها ما يظهرونه، فكانوا يظهرون في مجالسهم فيما بينهم كلاماً، ويخشون أيضاً أن ينزل من القرآن في شأنهم ما يفضح سرائرهم وما استكنوه في قلوبهم من الأسرار الخفية.
(تنبئهم بما في قلوبهم) مع أنه معلوم لهم، وأن المحذور عندهم اطلاع المؤمنين على إسرارهم، لكن هل المقصود أنه يحدث لديهم علم جديد بما في قلوبهم؟ لا؛ لأنهم يعلمون ما في قلوبهم، لكن المقصود: تكشف فضائحهم وخفايا أسرارهم، ويفتضحون أمام المؤمنين، فهذه الآيات سوف تذيع ما كانوا يخفونه من الأسرار، فتنتشر بين الناس، فيسمعونها من أفواه الرجال مذاعة، فكأنها تخبرهم بها؛ لأن الآية إذا نزلت تنتشر وتشيع في الناس، ويتحدث الناس بها ويتلونها، فكأن الآية في هذه الحالة تخبرهم بما في قلوبهم، وكأنهم يعلمونها من جديد، ومع أنهم يعرفون ما في قلوبهم لكن سوف يأتيهم عن طريق القرآن ما يشيع في الناس، ثم يسمعونها متناقلة على أفواه الرجال.
والمراد بالتنبئة: المبالغة في كون السورة مشتملة على أسرارهم، كأنها تعلم من أحوالهم الباطنة ما لا يعلمونه فتنبئهم بها، وكأنهم لا يعلمون، والقرآن سوف ينبئهم بما في قلوبهم، والمقصود بذلك المبالغة في علم الله سبحانه وتعالى بما في قلوبهم، وأن تنعي عليهم قبائحهم.
وقيل: معنى (يحذر) ليحذر؛ كأن اللام مقدر لام أمر، يعني: ليحذر المنافقون، (أن تنزل عليهم سورة تنبئهم بما في قلوبهم).
وقيل: الضميران الأولان للمؤمنين، والثالث للمنافقين أي: يحذر المنافقون أن تنزل على المؤمنين سورة تنبئ المؤمنين بما في قلوب المنافقين، فإن قلت: المنافق كافر؛ فكيف يحذر نزول الوحي على الرسول صلى الله عليه وسلم؟ أجيب: بأن القوم وإن كانوا كافرين بدين الرسول ﷺ إلا أنهم شاهدوا أنه ﷺ كان يخبرهم بما يكتمونه، فلهذه التجربة وقع الحذر والخوف في قلوبهم، وليس هذا منهم من باب التصديق بأن الوحي من السماء، وإنما بناءً على التجربة السابقة بأن الرسول عليه السلام يخبرهم بما يكتمونه، فخشوا تكرر هذا الذي خبروه وجربوه من النبي صلى الله عليه وسلم.
وقال الأصم: إنهم كانوا يعرفون كونه رسولاً صادقاً من عند الله، إلا أنهم كفروا به حسداً وعناداً.
وتعقبه القاضي: بأنه يبعد في العالم بالله وبرسوله وصحة دينه أن يكون محاداً لهما.
لكن الرازي قال: هو غير بعيد أي: لا يبعد أن يكون الإنسان يعرف أن الرسول حق، وأن القرآن حق، وأن الله حق، ومع ذلك يكفر حسداً وعناداً، كما وقع من اليهود وغيرهم؛ لأن الحسد إذا قوي في القلب صار بحيث ينازع في المحسوسات، إذا القلب استقر به مرض الحسد فهذا الحسد يطغى على بصيرته حتى إنه ينازع ويعاند في الأشياء المحسوسة ويكابر! قال أبو مسلم: هذا حذر أظهره المنافقون على وجه الاستهزاء، يعني قوله: ﴿يَحْذَرُ الْمُنَافِقُونَ أَنْ تُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ سُورَةٌ تُنَبِّئُهُمْ بِمَا فِي قُلُوبِهِمْ﴾ المقصود: أن هؤلاء المنافقين يظهرون الحذر استهزاءً بالنبي عليه الصلاة والسلام، ويقولون: انظروا إلى هذا الذي سوف تنزل عليه سورة تنبئنا بما في قلوبنا، وكأن هذا الحذر صدر منهم على سبيل الاستهزاء والتهكم بالنبي صلى الله عليه وسلم، حين رأوا الرسول عليه الصلاة والسلام يذكر كل شيء، ويدعي أنه عن طريق الوحي، وكان المنافقون يكذبون بذلك فيما بينهم، فأخبر الله رسوله بذلك، فأمره أن يعلمهم أنه يظهر سرهم الذي حذروا ظهوره، ويؤيد هذا التفسير قوله تعالى: ﴿قُلِ اسْتَهْزِئُوا﴾ يعني: أنتم تظهرون الحذر استهزاءً وتكذيباً، فاستهزئوا بالله وآياته ورسوله، أو: افعلوا الاستهزاء، وهذا الأمر ليس على ظاهره، وإنما هو أمر تهديد، كما في قوله تعالى: ﴿اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ﴾ [فصلت: ٤٠]، وكما في قوله تعالى: ﴿فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ﴾ [الكهف: ٢٩]، لا كما يزعم المنحرفون الضالون المفترون على الله، والقائلون على كتابه بغير علم: أن الإسلام يقدس حرية الرأي، حتى إن القرآن قال: ﴿فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ﴾ [الكهف: ٢٩]، وساقوا الآية على أنها تبيح الكفر! وهذا إلحاد في آيات الله، فهل يتصور أن القرآن يبح الكفر؟! هل هذا أمر على سبيل الإباحة؟! هذا تهديد، فكذلك هنا: (قل استهزئوا) تهديد.
(إن الله مخرج ما تحذرون) أي: مظهر بالوحي ما تحذرون خروجه من إنزال السورة، ومن مكايدكم ومخازيكم المستكنة في قلوبكم الفاضحة لكم، كقوله تعالى: ﴿أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ أَنْ لَنْ يُخْرِجَ اللَّهُ أَضْغَانَهُمْ * وَلَوْ نَشَاءُ لَأَرَيْنَاكَهُمْ فَلَعَرَفْتَهُمْ بِسِيمَاهُمْ وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ﴾ [محمد: ٢٩ - ٣٠]، ولهذا قال قتادة: كانت تسمى هذه السورة الفاضحة، أي: فاضحة المنافقين.


الصفحة التالية
Icon