تفسير قوله تعالى: (فليضحكوا قليلاً وليبكوا كثيراً)
ثم أخبر تبارك وتعالى عن عاجل آمرهم وآجله من الضحك القليل والبكاء الطويل المؤدية إليه أعمالهم السيئة التي من جملتها ما ذكر من الفرح، فقال عز وجل: ((فَلْيَضْحَكُوا قَلِيلًا))، أليسوا فرحين فليضحكوا؟ لكن هذا الضحك قليل، (فليضحكوا قليلاً)، هنا أمر بمعنى: التهديد، وليس للوجوب، ﴿فَلْيَضْحَكُوا قَلِيلًا وَلْيَبْكُوا كَثِيرًا جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ﴾ [التوبة: ٨٢]، أو هو أمر بمعنى الخبر، (فليضحكوا قليلاً وليبكوا كثيراً)، يعني: سوف تحصل لهم تلك الحالة: ضحك كثير مع بكاء طويل.
والحكمة من أنه سبحانه وتعالى أخرج حالهم الدنيوي والأخروي على صيغة الأمر؛ ليدل على تحتم وقوع المخبر به، فإن أمر الآمر المطاع مما لا يكاد أن يتخلف عنه المأمور به، فالله سبحانه وتعالى حينما يقول: اضحكوا قليلاً وابكوا كثيراً، إذا أمرهم الله سبحانه وتعالى بذلك، والله عز وجل لا يتخلف أمره عن الانقياد له قهراً وقسراً؛ فهذا يعني بيان تحتم وقوع ذلك، وعدم تخلفه عن المأمور به.
فإن قيل: إنهم ذكروا أنه يعبر عن الأمر بالخبر للمبالغة في اقتضائه تحقق المأمور به، فالخبر آكد، فما باله عكس هذا؟ ف
ﷺ أنه لا منافاة بينهما؛ لأن لكل مقام مقالاً، والنكت لا تتزاحم، فإذا عبر عن الأمر بالخبر لإفادة أن المأمور لشدة امتثاله كأنه وقع منه ذلك، وتحقق منه قبل الأمر به كان أبلغ، وإذا عبر عن الخبر بالأمر لإفادة لزومه ووجوبه، فكأنه مأمور به، أفاد ذلك مبالغة من جهة أخرى.
وهنا جمع بين صيغتين: صيغة الماضي والمستقبل، فقال عز وجل: ﴿فَلْيَضْحَكُوا قَلِيلًا وَلْيَبْكُوا كَثِيرًا جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ﴾ [التوبة: ٨٢]، جزاءً بما كانوا: ماضي، يكسبون: هذه صفة تفيد الاستمرار إلى المستقبل، الاستمرار التجددي ما داموا في الدنيا، يعني: ما داموا فيها فهم يكسبون هذه الأفعال.
قال الإمام القرطبي في تفسير قوله تعالى: ﴿فَلْيَضْحَكُوا قَلِيلًا وَلْيَبْكُوا كَثِيرًا جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ﴾ [التوبة: ٨٢]: من الناس من كان لا يضحك، يعني: كان بعض السلف لا يضحك، اهتماماً بنفسه وخوفاً على فساد حاله في اعتقاده، يظن أنه مقصر في حق الله، ولشدة خوفه كان لا يستطيع أن يضحك، وإن كان عبداً صالحاً لكنه يخشى التقصير، قال صلى الله عليه وسلم: (والله! لو تعلمون ما أعلم لضحكتم قليلاً ولبكيتم كثيراً، ولخرجتم إلى الصُّعُدات -أي الطرق- تجأرون إلى الله تعالى، لوددت أني كنت شجرة تعضد) أخرجه الترمذي.
وكان الحسن البصري رحمه الله ممن قد غلب عليه الحزن فكان لا يضحك، وكان ابن سيرين يضحك ويحتج على الحسن ويقول: الله أضحك وأبكى، وكان الصحابة يضحكون، إلا أن الإكثار منه وملازمته حتى يغلب على صاحبه مذموم منهي عنه، وقد قال عليه الصلاة والسلام: (إياك وكثرة الضحك فإن كثرة الضحك تميت القلب).
أما البكاء من خوف الله سبحانه وتعالى وعذابه وشدة عقابه فمحمود، قال صلى الله عليه وسلم: (ابكوا فإن لم تبكوا فتباكوا، فإن أهل النار يبكون حتى تسيل دموعهم في وجوههم كأنها جداول، حتى تنقطع الدموع فتسيل الدماء فتقرح العيون، فلو أن سفناً أجريت فيها لجرت).
أخرجه ابن المبارك من حديث أنس وأخرجه ابن ماجة أيضاً.
وفي حديث السبعة الذين يظلهم الله في ظله: (ورجل ذكر الله خالياً ففاضت عيناه).
وقال أيضاً: (عينان لا تمسهما النار، وذكر منهما: وعين بكت من خشية الله)، فمن كثر بكاؤه خوفاً من الله تعالى وخشية منه، ضحك كثيراً في الآخرة؛ لأن المؤمنين يقولون: ﴿إِنَّا كُنَّا قَبْلُ فِي أَهْلِنَا مُشْفِقِينَ * فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا وَوَقَانَا عَذَابَ السَّمُومِ﴾ [الطور: ٢٦ - ٢٧].
وقد قيل للحسن: ما نصنع يا أبا سعيد -بمجالسة أخوان يخوفوننا، حتى تكاد قلوبنا تتفطر؟! فقال: لئن تجالس قوماً يخوفونك حتى تدرك أمناً، خير لكن من أن تجالس قوماً يؤمنونك حتى تلحقك المخاوف.
ووصف الله سبحانه وتعالى أهل النار فقال: ﴿وَإِذَا انقَلَبُوا إِلَى أَهْلِهِمُ انقَلَبُوا فَكِهِينَ﴾ [المطففين: ٣١]، وقال أيضاً: ﴿وَكُنتُمْ مِنْهُمْ تَضْحَكُونَ * إِنِّي جَزَيْتُهُمُ الْيَوْمَ بِمَا صَبَرُوا أَنَّهُمْ هُمُ الْفَائِزُونَ﴾ [المؤمنون: ١١٠ - ١١١].