تفسير قوله تعالى: (والذين اتخذوا مسجداً ضراراً وكفراً)
قال الله تعالى: ﴿وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مَسْجِدًا ضِرَارًا وَكُفْرًا وَتَفْرِيقًا بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ وَإِرْصَادًا لِمَنْ حَارَبَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ مِنْ قَبْلُ وَلَيَحْلِفُنَّ إِنْ أَرَدْنَا إِلَّا الْحُسْنَى وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ﴾ [التوبة: ١٠٧].
(والذين اتخذوا مسجداً ضراراً) عطف جملة على جملة، يعني: ومنهم الذين اتخذوا مسجداً ضراراً، (ضراراً) إعرابها: مفعول لأجله، وتفسير الآية يوضح إعرابها، فهم اتخذوا المسجد من أجل الضرار.
وقد ذكر الضرار في قوله صلى الله عليه وسلم: لا ضرر ولا ضرار، (من ضار ضاره الله، ومن شاق شاق الله عليه).
قوله: (وكفراً وتفريقاً بين المؤمنين) أي: يفرقون به جماعتهم؛ ليتخلف أقوام عن النبي صلى الله عليه وسلم، وهذا يدل على أن المقصد الأكبر والغرض الأظهر من وضع الجماعة تأليف القلوب، واجتماع الكلمة على الطاعة، وعقد الزمام، والحرمة بفعل الديانة، حتى يقع الأنس بالمخالطة، وتصفو القلوب من وضر الأحقاد.
ولذلك يقول الإمام القرطبي رحمه الله تعالى هنا في تفسيره: تفطن مالك رحمه الله من هذه الآية فقال: لا تصلى جماعتان في مسجد واحد بإمامين، خلافاً لسائر العلماء.
يعني: العلماء الذين ذهبوا إلى منع تعدد الجماعة في المسجد الواحد الذي له إمام راتب فطنوا إلى هذا، وهو أن الجماعة شرعت من أجل ارتباط القلوب، والتحاب، والتعاطف بين المسلمين، وتكرر الجماعة يفتح الذريعة إلى الطعن في الإمام، وإلى تفرق القلوب، كما حصل من أهل البدع كأمثال أهل التكفير حينما كانوا يتعمدون التخلف عن الجماعة الأولى، ويقيمون جماعة ثانية؛ لأنهم يكفرون الإمام أو يفسقونه أو يطعنون فيه، فالعلماء سدوا هذا الباب، ومنعوا إقامة جماعة ثانية في المسجد الواحد، وهذا مذهب كثير من العلماء، وسبق أن تكلمنا بالتفصيل في هذه المسألة.
قال: وروي عن الشافعي المنع؛ حيث كان تشتيتاً للكلمة وإبطالاً لهذه الحكمة، وذريعة إلى أن نقول: من يريد الانفراد عن الجماعة كان له عذر، فيقيم جماعته، ويقدم إمامه، فيقع الخلاف ويبطل النظام، وخفي ذلك على بعض العلماء، قال ابن العربي: وهذا كان شأنه معهم، وهو أثبت قدماً منهم في الحكمة، وأعلم بمقاصد الشريعة.
((وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مَسْجِدًا ضِرَارًا وَكُفْرًا وَتَفْرِيقًا بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ وَإِرْصَادًا لِمَنْ حَارَبَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ مِنْ قَبْلُ)) (من قبل) يعني: من قبل بناء مسجد الضرار.
((وَلَيَحْلِفُنَّ إِنْ أَرَدْنَا إِلَّا الْحُسْنَى)) يعني: إلا الفعلة الحسنى، فالحسنى هنا صفة لمحذوف تقديره: إلا الفعلة أو الخصلة الحسنى، وهي الرفق بالمسلمين ذوي العلة والحاجة، هذه هي الحسنى التي زعموها؛ لأن مسجد الرسول عليه الصلاة والسلام بعيد، وهناك ناس مرضى وذوو حاجة وعندهم علل، وحتى لا يشق عليهم نبني لهم هذا المسجد ليصلوا فيه ((وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ)).
قوله تعالى: (والذين) أي: ومن المنافقين الذين (اتخذوا) أي: بنوا مسجداً، (ضراراً) أي: مضارة لأهل مسجد قباء، لأن الضرار ليس بالمسجد: بالحجارة والطوب والأرض، إنما الإضرار بأهل المسجد، (وكفراً) يعني: بالله ورسوله، أو تقوية للكفر الذي يضمرونه.
(وتفريقاً بين المؤمنين) أي: الذين كانوا يجتمعون بمسجد قباء اجتماعاً واحداً، يؤدون أجل الأعمال وهي الصلاة التي يقصد بها تقوية الإسلام بجمع قلوب أهله على الخيرات، ورفع الاختلاف من بينهم.
(وإرصاداً): إعداداً وترقباً وانتظاراً، (وإرصاداً لمن حارب الله ورسوله من قبل) أي: من كفر بالله ورسوله من قبل، وهو أبو عامر الراهب الذي سماه رسول الله ﷺ فاسقاً، وسمي بـ أبي عامر الراهب؛ لأنه كان يتعبد ويلتمس العلم، فمات كافراً بقنسرين بدعوة النبي صلى الله عليه وسلم.
وأبو عامر هذا الكافر خرج من ظهره مؤمن، وهو حنظلة الملقب بغسيل الملائكة، ﴿يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ﴾ [يونس: ٣١]، وكان حنظلة رضي الله تعالى عنه قد استأذن النبي ﷺ في قتل أبيه الخائن، فنهاه النبي ﷺ عن قتله، كما فعل عبد الله بن عبد الله بن أبي حينما استأذن النبي أن يقتل أباه، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: (لا يتحدث الناس أن محمداً يقتل أصحابه، ولكن بر أباك وأحسن صحبته)، وقد قتل عبد الله بن عبد الله بن أبي شهيداً في معركة اليمامة تحت قيادة خالد بن الوليد رضي الله تعالى عنه.
وحنظلة بنى بزوجته ليلة أحد، فكانت غزوة أحد صبيحة زفافه، ولما سمع داعي الجهاد لحق به على عجل، ولم يغتسل من الجنابة، وقتل في المعركة، فرأى النبي ﷺ الملائكة تغسله، فأمرهم أن يسألوا أهله ما شأنه؟ ما الخبر؟ لماذا هو بالذات تغسله الملائكة؟! وما كان أحد يعرف السر في ذلك، فسألوا زوجته وهي جميلة بنت أبي بن سلول وكانت عروساً عليه تلك الليلة، فقالت: خرج وهو جنب حين سمع الهاتف، فقال صلى الله عليه وسلم: (كذلك غسلته الملائكة) رضي الله عنه.
وقد مر أبو عامر الخائن على ابنه حنظلة، وهو مضرج بدمائه بين الشهداء قتيلاً، فضربه برجله في صدره، وقال له: ذنبان أصبتهما، ولقد نهيتك عن مصرعك هذا، ولقد والله كنت وصولاً للرحم.
وأبو عامر هو الذي حلف ألا تقع معركة مع النبي عليه الصلاة والسلام إلا وشارك فيها ضد رسول الله عليه الصلاة والسلام، وقد سماه النبي صلى الله عليه وسلم: فاسقاً.
قوله: (وليحلفن) يعني: بعد ظهور نواياهم ومقاصدهم السيئة، وقلنا من قبل: إن من خصائص المنافقين: الاستجنان بالأيمان الكاذبة؛ ليصدوا عن سبيل الله، ويستروا عداءهم للدين، وقد جاء ذكر حلفهم في عدة مواضع، منها: ﴿يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَكُمْ لِيُرْضُوكُمْ﴾ [التوبة: ٦٢].
فهم بعدما تفتضح نواياهم وتظهر مقاصدهم السيئة يلوذون بالحلف.
قولهم: (إن أردنا إلا الحسنى) أي: ما أردنا ببناء المسجد إلا الخصلة الحسنى أو إلا الإرادة الحسنى، وهي: الصلاة وذكر الله، والتوسعة على المصلين، وقال بعضهم: (الحسنى) طاعة الله، وقيل: (الحسنى) الجنة، وقيل: (الحسنى) فعل التي هي أحسن من إقامة الدين والاجتماع للصلاة.
(والله يشهد إنهم لكاذبون) يعني: في حلفهم.