تفسير قوله تعالى: (دعواهم فيها سبحانك اللهم وتحيتهم فيها سلام)
قال تعالى: ﴿دَعْوَاهُمْ فِيهَا سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ وَتَحِيَّتُهُمْ فِيهَا سَلامٌ وَآخِرُ دَعْوَاهُمْ أَنِ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ﴾ [يونس: ١٠].
((دَعْوَاهُمْ فِيهَا)) أي: دعاؤهم ((سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ)).
ومعنى قوله: ((سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ)) أي: اللهم إنا نسبحك، كقول القانت: اللهم إياك نعبد، يقال: دعا يدعو دعاءً ودعوى، كما يقال: شكا يشكو شكايةً وشكوى، فإذاً دعواهم هنا تساوي الدعاء، ويجوز أن يراد بالدعاء العبادة، ونظيره قوله تعالى: ﴿وَأَعْتَزِلُكُمْ وَمَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ﴾ [مريم: ٤٨] أي: وما تعبدون من دون الله.
((وَتَحِيَّتُهُمْ فِيهَا سَلامٌ)) أي: تحيتهم التي يحيي بها بعضهم بعضاً هي أنهم يسلم بعضهم على بعض.
أو أنها تحية الملائكة إياهم بالسلام، كما في قوله تعالى: ﴿وَالْمَلائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بَابٍ * سَلامٌ عَلَيْكُمْ بِمَا صَبَرْتُمْ﴾ [الرعد: ٢٣ - ٢٤].
أو هي تحية الله عز وجل لهم، كما في قوله تعالى: ﴿سَلامٌ قَوْلًا مِنْ رَبٍّ رَحِيمٍ﴾ [يس: ٥٨] والتحية التكرمة بالحالة الجلية، أصلها أحياك الله حياةً طيبة، والسلام: بمعنى السلامة من كل مكروه.
((وَآخِرُ دَعْوَاهُمْ)) أي: وخاتمة دعائهم هو التحميد بقولهم: ((أَنِ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ)) يعني: أن أول دعائهم (سبحانك اللهم وتحيتهم فيها سلام) وآخر دعائهم ((أَنِ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ)) فهم يختمون دعاءهم بحمد الله سبحانه وتعالى.
والمراد من الآيات أن دعاء أهل الجنة وعبادتهم هو قولهم: سبحانك اللهم وبحمدك كما في الحديث الصحيح، مع أنهم في دار ليست دار تكليف وليست بدار عبادة، لكنهم يلهمون التسبيح كما تلهمون النفس، فالذي ينام ليس هو الذي يتولى تنظيم تنفسه، وضربات قلبه، وخلجات عضلاته، فكذلك أهل الجنة ليسوا في دار تكليف، فلذلك هذا التسبيح يخرج منهم إلهاماً من الله سبحانه وتعالى.
في كثير من النصوص يقرن التسبيح بالتحميد، فإن قلت: سبحان الله وبحمده، أو سبحانك اللهم وبحمدك، فمعنى سبحانك: هو تنزيه الله سبحانه وتعالى عما لا يليق أن ينسب إليه.
أما الحمد فهو إثبات ما يليق من صفات الكمال والجمال والجلال.
وفي القرآن الكريم يربط التسبيح بالتحميد كما في قوله تعالى: ﴿وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ﴾ [الإسراء: ٤٤] لكن الصيغة الغالبة هي سبحانك اللهم وبحمدك.
أي: أقول ذلك متلبساً بحمدك.
فهنا عدل عن هذه الصفة كما يقول القاسمي هنا.
والمراد من الآيات أن دعاء أهل الجنة وعبادتهم هو قولهم: سبحانك اللهم وبحمدك، وإيثار التعبير عن (وبحمدك) بقوله: ((وَآخِرُ دَعْوَاهُمْ أَنِ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ)) رعايةً للفواصل، واهتماماً بالحمد وما معه من النعوت الجليلة.
والآية تدل على سمو هذا الذكر؛ لأنه دعاء أهل الجنة، ولأنه ذكر الملائكة كما قالوا: ﴿وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ﴾ [البقرة: ٣٠] ولذلك يفضل الإمام أحمد أن يقال بعد تكبيرة الإحرام في دعاء الاستفتاح: (سبحانك اللهم وبحمدك، وتبارك اسمك، وتعالى جدك، ولا إله غيرك)؛ لأن فيه ثناءً محضاً، وفيه الاشتغال بالثناء على الله سبحانه وتعالى، وهو أفضل من الاشتغال بالسؤال، وفي كل خير.
قال الرازي: لما استسعد أهل الجنات بذكر سبحانك اللهم وبحمدك، وعاينوا ما فيه من السلامة عن الآفات والمخافات، علموا أن كل هذه الأحوال السنية والمقامات القدسية، إنما تيسرت بإحسان الحق سبحانه وتعالى وإفضاله وإنعامه، فلا جرم لم يشتغلوا إلا بالحمد والثناء، هذا هو دعاؤهم أوله: ((سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ)) وآخره: ((الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ)).


الصفحة التالية
Icon