تفسير قوله تعالى: (وما يتبع أكثرهم إلا ظناً)
قال تعالى: ﴿وَمَا يَتَّبِعُ أَكْثَرُهُمْ إِلَّا ظَنًّا إِنَّ الظَّنَّ لا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئًا إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِمَا يَفْعَلُونَ﴾ [يونس: ٣٦].
((وَمَا يَتَّبِعُ أَكْثَرُهُمْ)) أي: في اعتقادهم ألوهية الأصنام.
((إِلَّا ظَنًّا)) اعتقاداً غير مستند إلى برهان، بل لخيالات فارغة وأقيسةٍ فاسدة.
والمراد بالأكثر هنا الجميع.
((إِنَّ الظَّنَّ لا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ)) أي: من العلم والاعتقاد الحق ((شيئاً)) أي: من الإقناع.
((إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِمَا يَفْعَلُونَ)) وعيد على ما يفعلون من اتباع الظن وإعراضهم عن البرهان.
يلفت الرازي رحمه الله النظر إلى وجود ارتباط وثيق في القرآن الكريم بين آية الخلق وآية الهداية.
يقول الرازي في هذه الآيات: ﴿قُلْ هَلْ مِنْ شُرَكَائِكُمْ مَنْ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ قُلِ اللَّهُ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ * قُلْ هَلْ مِنْ شُرَكَائِكُمْ مَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ قُلِ اللَّهُ يَهْدِي لِلْحَقِّ أَفَمَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ أَحَقُّ أَنْ يُتَّبَعَ أَمَّنْ لا يَهِدِّي إِلَّا أَنْ يُهْدَى فَمَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ * وَمَا يَتَّبِعُ أَكْثَرُهُمْ إِلَّا ظَنًّا إِنَّ الظَّنَّ لا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئًا إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِمَا يَفْعَلُونَ﴾ [يونس: ٣٤ - ٣٦]: اعلم أن الاستدلال على وجود الصانع بالخلق أولاً، ثم بالهداية ثانياً عادة مطردة في القرآن، فحكى الله تعالى عن الخليل عليه السلام أنه ذكر ذلك فقال: ﴿الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ﴾ [الشعراء: ٧٨].
وحكى عن موسى عليه السلام في سورة طه: ﴿قَالَ رَبُّنَا الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى﴾ [طه: ٥٠].
وأمر محمداً ﷺ بذلك فقال: ﴿سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الأَعْلَى * الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى * وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدَى﴾ [الأعلى: ١ - ٣].
فذكر الخلق ثم الهداية، وهو في الحقيقة دليل شريف؛ لأن الإنسان له جسد وروح، فهاهنا أيضاً لما ذكر دليل الخلق في الآية الأولى، وهو قوله: (أمن يبدئ الخلق ثم يعيده) أتبعه بدليل الهداية في هذه الآية، والمقصود من خلق الجسد حصول الهداية للروح كما قال تعالى: ﴿وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لا تَعْلَمُونَ شَيْئًا وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالأَبْصَارَ وَالأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ﴾ [النحل: ٧٨].
((أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ)) أي: هذا الجسد، ثم بعد ذلك جعل لكم السمع والأبصار والأفئدة تعلمون بها ((لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ)) وهذا كان كالتصريح بأنه تعالى إنما خلق الجسد وإنما أعطى الحواس؛ لتكون آلة في اكتساب المعارف والعلوم.
ثم يقول: فالأحوال الجسدية خفيفة متعلقة بالحواس، أما الأحوال الروحانية والمعارف الإلهية فإنها كمالات باقية أبد الآباد، مصونةٌ عن الفساد، فعلمنا أن الخلق تبع للهداية.
والمقصود أن الأشرف والأعلى هو حصول الهداية؛ ولكن لاضطراب العقول وتشعب الأفكار، كانت الهداية وإدراك الحق بإعانته تعالى وحده، والهداية إما أن تكون عبارةً عن الدعوة إلى الحق، أو عن تحصيل معرفتها، وعلى كلٍ فقد بينا أنها أشرف المراتب وأعلى السعادات، وأنها ليست إلا منه تبارك وتعالى، وهذه أدلة على توحيد الله سبحانه وتعالى أنه الذي خلق ثم هدى.
أما الأصنام فإنها جمادات لا تأثير لها في الدعوة إلى الحق، ولا في الإرشاد إلى الصدق، فثبت أنه تعالى هو الموصل إلى جميع الخيرات في الدنيا والآخرة، والمرشد إلى كل الكمالات في النفس والجسد، وأن الأصنام لا تأثير لها في شيء من ذلك، وإذا كان كذلك كانت عبادتها جهلاً محضا وسفهاً.
فهذا حاصل الكلام في هذا الاستدلال.