تفسير قوله تعالى: (وراودته التي هو في بيتها عن نفسه)
﴿وَرَاوَدَتْهُ الَّتِي هُوَ فِي بَيْتِهَا عَنْ نَفْسِهِ وَغَلَّقَتِ الأَبْوَابَ وَقَالَتْ هَيْتَ لَكَ قَالَ مَعَاذَ اللَّهِ إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوَايَ إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ﴾ [يوسف: ٢٣] هذا رجوع إلى شرح ما جرى ليوسف في منزل العزيز، بعدما أمر امرأته بإكرام مثواه، بقوله: ﴿وَقَالَ الَّذِي اشْتَرَاهُ مِنْ مِصْرَ لِامْرَأَتِهِ أَكْرِمِي مَثْوَاهُ عَسَى أَنْ يَنفَعَنَا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَدًا﴾ [يوسف: ٢١] ثم حصل تخلل لأحداث القصة بهذا الموضع: ﴿وَكَذَلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الأَرْضِ وَلِنُعَلِّمَهُ مِنْ تَأْوِيلِ الأَحَادِيثِ وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ * وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ آتَيْنَاهُ حُكْمًا وَعِلْمًا وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ﴾ [يوسف: ٢١ - ٢٢] فعاد السياق ورجع إلى شرح ما جرى ليوسف عليه السلام في منزل العزيز من مراودتها له وإيذائها له عليه السلام.
((وراودته)) أي: طلبت منه أن يواقعها.
وتعديته بعن (وراودته عن نفسه) لتضمينه معنى المخادعة، والعدول عن التصريح باسمها للمحافظة على السر والستر، وإيراد الموصول دون امرأة العزيز لتقرير المراودة، كان يمكن أن يقول: وراودته امرأة العزيز، لكن سيفوتنا في هذه الحالة بيان هذا المعنى الذي جاء في صيغة الموصول: ((وراودته التي هو في بيتها)) إشارة إلى أن عوامل الفتنة كانت كلها مجتمعة في حق يوسف عليه السلام ومع ذلك ثبت؛ لأنها صاحبة البيت وهي البادئة والمحتالة والمخادعة والحريصة على ذلك، فإيراد الموصول (التي) دون امرأة العزيز جاء لتقرير المراودة حتى نعلم أنه قد وقعت هذه المراودة، فإن كونه في بيتها مما يدعو إلى ذلك.
قيل لامرأةٍ: ما حملك على ما لا خير فيه؟ قالت: قرب الوساد، وطول السواد.
وفيها إظهار كمال نزاهته عليه السلام كما سيأتي؛ لأن هذه الآية تثبت أنها هي التي فعلت ذلك، وأنه لم يكن من ناحيته شيء، فصيغة الموصول هنا أفادت كل هذه الفوائد.
((وقالت هيت لك)) قرئت (هيت) كجير، وكحيث، وبكسر الهاء، وبهمزة ساكنة بعدها (هئت لك).
إذاً فيها خمس قراءات (هَيت لك) (هِيت لك)، (هَيتُ) (هئْت)، (هيئت)، وهي في هذه اللغات كلها اسم فعل بمعنى: تعال، واللام لتبيين المفعول.
ونقل عن الفراء: أنها لغة لأهل حوران سقطت إلى مكة فتكلموا بها.
قال ابن الأبياري: هذا وفاق بين لغة قريش وأهل حوران، كما اتفقت لغة العرب والروم في القسطاس ونحوه.
((قال معاذ الله)) منصوب على المصدر أي: أعوذ بالله مما تدعينني إليه، لكونه زناً وخيانة فيما اؤتمنت عليه، وضراً لمن توقع النفع، وإساءة إلى المحسن.
((قال معاذ الله)) قال أبو السعود: وهذا اجتناب منه على أتم الوجوه، وإشارة إلى التعليل بأنه منكر هائل يجب أن يعاذ بالله تعالى للخلاص منه، وما ذاك إلا لأنه عليه السلام قد شاهده بما أراه الله تعالى من البرهان النير على ما هو عليه في حد ذاته من غاية القبح ونهاية السوء، وهذه هي الشفافية والإيمان والإخلاص لله سبحانه وتعالى، كما وصفه الله تعالى بأنه كان من المخلصين، فأداه هذا إلى أن رأى الفحش في صورته الحقيقية القبيحة، التي تبلغ أقصى غايات السوء والقبح والشناعة، فلذلك قال: ((معاذ الله)).
فكلمة ((معاذ الله)) تكشف عن أنه رأى القبيح قبيحا، ً وأنه لم يزين في عينه عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام.
والإنسان قد يرى الأشياء على غير ما هي عليه، ولذلك كان من الدعاء المأثور -أعتقد أنه ينسب إلى الصديق رضي الله تعالى عنه-: (اللهم أرني الحق حقاً وارزقني اتباعه، وأرني الباطل باطلاً وارزقني اجتنابه، ولا تجعله ملتبساً علي فأتبع الهوى) أو كما قال رضي الله عنه، إذاً: قد يرى الإنسان الحق باطلاً أو الباطل حقاً، أما من وفقه الله سبحانه وتعالى فإنه يرى الأشياء على ما هي عليه، وهذا هو الذي حصل من يوسف عليه السلام، فإنه رأى القبيح قبيحاً في صورته التي يستحقها من القبح، فلذلك نفر منه وبعد منه غاية البعد ونفر غاية النفور كما هو واضح في السياق، فهو لم يتردد في ذلك على الإطلاق.
وهذا خلاف من يخذله الله سبحانه وتعالى فيستحقر القبائح، كم ترى من شخص قد يهنئ الآخر؛ لأنه أحضر جهاز الدش في البيت، ولو فقه وعرف ضرره لعزاه في هذه المصيبة التي ليس بعدها مصيبة.
فالله سبحانه وتعالى ينكس قلوب هؤلاء الناس ويرون القبيح حسناً والحسن قبيحاً، كما ترون في كافة وسائل الإعلام من التشنيع على أهل الطاعة، ومن التنفير عن سبيل الله سبحانه وتعالى بالألفاظ المنفرة، والأوصاف المخالفة للحقيقة، وفي نفس الوقت يرون القبيح حسناً.
((قال معاذ الله إنه ربي أحسن مثواي)) تعليل للامتناع ببعض الأسباب الخارجية.
قوله: ((معاذ الله)) فيه إشارةً إلى التقوى التي في قلبه، فهو يرى هذا الفعل معصية لله سبحانه وتعالى قبيحاً، ولا يعينه على النجاة منها إلا الله، ولذلك تعوذ بالله.
ثم إن يوسف عليه السلام ذكر لها بعض الأسباب التي تكون مقنعة لها فتكف عنه شرها فقال: ((إنه ربي أحسن مثواي)) فهنا علل امتناعه بأسباب خارجية مما عسى أن يكون مؤثراً عندها وداعياً لها إلى اعتباره، بعد التنبيه على سببه الذاتي الذي تكاد تقبله لما سولته لها نفسها.
والضمير في قوله: (إنه) للشأن، وفائدة تصدير الجملة به إشارة إلى ضخامة مضمون هذه الجملة، مع ما فيه من زيادة تقريره في الذهن؛ فإن الضمير لا يفهم منه من أول الأمر إلا شأن مبهم له خطر، فيبقى الذهن مترقباً لما يعقبه.
هذه فائدة استعمال ضمير الشأن، فكأنه قيل: إن الشأن الخطير هو أن ربي -أي: سيدي العزيز صاحب هذا البيت- قد أحسن مثواي، وأحسن تعهدي، حيث أمرك بإكرامي، فكيف أقابل إحسانه إلي بالخيانة في حرمه؟! وفيه إرشاد لها بطريقة في غاية اللطف إلى رعاية حق العزيز، إذا كان من هو في مقام عبده أو خادمه راعياً حرمته بهذه الطريقة، فأولى بها وهي زوجته أن ترعى حرمته، فكأنه يقول لها: وقد أحسن مثواك أنت أيضا، ً فعليك أن تؤدي حق هذا الزوج ولا تخونيه.
وقيل: الضمير لله عز وجل، (إنه ربي) أي: الله عز وجل، فكيف أعصي الله عز وجل بارتكاب تلك الفاحشة؟! على أساس أن ربي خبر إن و (أحسن مثواي) خبر ثان، أو: (أحسن مثواي) هو الخبر و (ربي) بدل من الضمير.
وفيه تحذير لها من عقاب الله عز وجل، أي: أن الله سبحانه وتعالى أحسن مثواي فكيف أعصيه؟! فأشار لها أيضاً أن تتقي الله ولا تفعل ما يغضبه سبحانه، وعلى التقديرين ففي الاقتصار على ذكر هذه الحالة من غير تعرض للامتناع عما دعته إليه إيذان بأن هذه المرتبة من البيان كافية في الدلالة على استحالته، وكونه مما لا يدخل تحت الوقوع أصلاً، فهو لم يواجهها بقوله: ما هذا الذي تطلبينه، أو إن هذا لا يمكن أن يقع، أو إنني أمتنع من هذا.
ثم أضاف تعليلاً آخر للامتناع فقال: ((إنه لا يفلح الظالمون)) عقب التعليل الأول.
والفلاح هو الظفر، أو البقاء في الخير، ومعنى (أفلح): دخل فيه كأصبح وأخواتها.
والمراد بالظالمين كل من ظلم كائناً من كان، فيدخل في ذلك المقابلون للإحسان بالإساءة، والعصاة لأمر الله تعالى كالزناة؛ لأنهم ظالمون لأنفسهم، وظالمون للمزني بأهله.