تفسير قوله تعالى: (ولقد همت به وهم بها)
ثم يقول تعالى: ﴿وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِهَا لَوْلا أَنْ رَأَى بُرْهَانَ رَبِّهِ كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاءَ إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ﴾ [يوسف: ٢٤].
الهم يكون بمعنى القصد والإرادة، ويكون فوق الإرادة ودون العزم، إذا أريد به اجتماع النفس على الأمر والإجماع عليه، وبالعزم القصد إلى إمضائه، فهو -أي: الهم- أول العزيمة، أما أعلاه فهو الهمة.
إذاً: الهم همان: هم ثابت معه عزم وعقل ورضاً، مثل: الهم الذي يدفع صاحبه إلى المشي إلى الحانة ليشرب الخمر ووجدها مغلقة، فهذا عنده الهم وعنده العزيمة، وكذلك الذي يهم أن يقاتل أخاه المسلم، كما جاء في الحديث: (إذا التقى المسلمان بسيفيهما فالقاتل والمقتول في النار، قالوا: هذا القاتل فما ذنب المقتول؟ قال: إنه كان حريصاً على قتل صاحبه)، فالمقتول فشل في المبارزة فقتل قبل أن يقدر على قتل أخيه، وإلا فهو قد هم وحرص على هذه المعصية، فيؤاخذ بهذا الهم.
أما الهم الثاني فهو الهم الذي هو خاطر أو حديث نفس يخطر للإنسان ولا يوجد عقبه شيء حسي أو في الأعيان، فروى الشيخان وأهل السنن عن أبي هريرة رضي الله عنه، عن النبي ﷺ قال: (إن الله تجاوز لأمتي ما حدثت به أنفسها ما لم تتكلم أو تعمل).
فمعنى قوله تعالى: ((ولقد همت به)) أي: همت بمخالطته وعزمت عليها عزماً جازماً، ليس كالخاطر العابر، بل هو همٌّ مؤثر وهو العزم والتصميم، لا يلويها عنه صارف بعد ما باشرت مبادئه من المراودة وتغليق الأبواب، ودعته إلى الإسراع إليها بقولها: ((هيت لك)) مما اضطره إلى الهرب إلى الباب، هذا الهم منها.
ولذلك يحسن الحقيقة الوقف هنا عند قوله: ((ولقد همت به)) ثم البدء بقوله: ((وهم بها لولا أن رأى برهان ربه)) لمعنى سوف نبينه إن شاء الله.
أي: لولا رؤيته برهان ربه لهمّ بها كما همت به لتوافر الدواعي، فكل دواعي الفتنة موجودة فقد كان في عنفوان شبابه عزباً مملوكاً، وهي التي ابتدأت وألحت على هذا الشيء، ثم إنها تملك الرغبة والرهبة، فقد هددت بسجنه وغير ذلك.
فهذه الآية تنزه يوسف أن يكون قد هم؛ لأن "لولا" حرف امتناع لوجود، فامتنع الهم لوجود برهان ربه، مثل قولك: لولا الماء لعطشنا، فامتنع العطش بسبب وجود الماء، وقولك: لولا الهواء لاختنقت، فامتنع الاختناق نتيجة وجود الهواء، وكذلك يقول الشخص: قاربت الإثم لولا أن الله عصمك، فهل معنى ذلك أنه قارف الإثم؟ لا؛ فبسبب وجود عصمة الله لم يقارف الإثم.
قال أبو حيان: ونظيره: قاربت الإثم لولا أن الله عصمك، ولا نقول: إن جواب "لولا" يتقدم عليها، وإن لم يقم دليل على امتناعه، بل صريح أدوات الشرط العاملة مختلف فيها، حيث ذهب الكوفيون وأعلام البصريين إلى جواز تقدمه، بل نقول: هو محذوف لدلالة ما قبله عليه؛ لأن المحذوف في الشرط يقدر من جنس ما قبله، فالآية حينئذ ناطقة بأنه لم يهم أصلاً.
وقيل: جواب "لولا": لغشيها ونحوه، فلو قلنا: إن التقدير: ((ولقد همت به وهم بها لولا أن رأى برهان ربه)) أي: لغشيها، أو لأجابها، فحينئذ يكون معنى الهم أنه مجرد خطور الشيء بالبال، أو أنه الميل الفطري الطبيعي كالصائم في الصيف يرى الماء البارد فتحمله نفسه على الميل إليه وطلب شربه، ولكن يمنعه دينه عنه، وكالمرأة الفائقة حسناً وجمالاً تتهيأ للشاب النامي القوي، فتقع بين الشهوة والعفة وبين النفس والعقل مجاذبة ومنازعة، فداعي الدين هو الذي يمنع من ذلك، فالهم هنا عبارة عن جواذب الطبيعة، ورؤية البرهان جواذب الحكمة، وهذا لا يدل على حصول الذنب، بل كلما كانت هذه الحال أشد كانت القوة على لوازم العبودية أكمل.
وكذا قال أبو السعود: إن همه بها بمعنى ميله إليها بمقتضى الطبيعة البشرية ميلاً جبلّياً، لا يكاد يدخل تحت التكليف، لا أنه قصدها قصداً اختيارياً، ألا ترى إلى ما سبق من استعصامه المنبئ عن كمال كراهيته له ونفرته عنه، وحكمه بعدم إفلاح الظالمين.
فلا شك أن العبارة في الموقف السابق ليوسف عليه السلام وهو الوارد في قوله: ((قال معاذ الله إنه ربي أحسن مثواي إنه لا يفلح الظالمون)) يدل على كمال نفوره واستقباحه لهذا الفعل، هل هو إلا تسجيل باستحالة صدور الهم منه عليه السلام تسجيلاً محكماً؟! وإنما عبر عنه بالهم لمجرد وقوعه في صحبة همها في الذكر بطريق المشاكلة، فحصل نوع من المزاوجة مثل قوله: ﴿وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللَّهُ﴾ [آل عمران: ٥٤] لا لشبه بينها كما قيل، لكنه نوع من المشاكلة للاستصحاب بين اقتران اللفظين معاً في لفظ واحد أو في وقت واحد، لكن أشير إلى تباينهما حيث لم يردا في قالب واحد من التعبير بأن قيل: ولقد هم بالمخالطة أي: لم يقل سبحانه وتعالى: ولقد (هما) معاً، أو لم يقل: ولقد هم كل منهما بالآخر، ولكن حصلت هذه المباينة إشارة إلى افتراقهما، ولقد همت به هماً كما ذكرنا بالمخالطة، أما هو فهم بها هماً جبلّياً غير اختياري.
فجاءت الصيغة بهذه الطريقة إشارةً إلى تباين نوعي الهم، وأنهما ليسا من باب واحد.
يقول: وصدر الأول -يعني: ابتدأ بهمها أولاً- بما يقرر وجوده من التوكيد القسمي ((ولقد همت به)) ليثبت وجود هذا الهم منها، وعقب الثاني بما يعفو أثره وبما يمحو أثره، ((وهم بها لولا أن رأى برهان ربه)) إشارة إلى تباين الهم كما ذكرنا.
((برهان ربه)) أي: حجة ربه الباهرة الدالة على كمال قبح الزنا وسوء سبيله، إنه نور من ربه سبحانه وتعالى جعله يرى القبيح قبيحاً وينفر منه غاية النفور، والمراد برؤيته له كمال إيقانه به ومشاهدته له مشاهدةً وصلت به إلى مرتبة عين اليقين، وهي أعلى مراتب العلم على الإطلاق، وكأنه عليه السلام قد شاهد الزنا بموجب ذلك البرهان النير على ما هو عليه في حد ذاته، أقبح ما يكون وأوجب ما يجب أن يحذر منه، ولذلك فعل ما فعل من الاستعصام والحكم بعدم إفلاح من يرتكبه.
وجواب لولا محذوف يدل عليه الكلام، أي لولا مشاهدة برهان ربه بشأن الزنا لجرى على موجب ميله الجبلي، ولكن حيث كان مشاهداً له من قبل، استمر على ما هو عليه من قضية البرهان، وفائدة هذه الشرطية بيان أن امتناعه عليه السلام لم يكن لعدم مساعدة من جهة الطبيعة بل لمحض العفة والنزاهة.
فاتضح أن لا تشويش في هذه الآية على عصمة يوسف عليه السلام، كنبي من أنبياء الله عليهم السلام، فإن الأنبياء ليسوا بمعصومين من حديث النفس وخواطر الشهوة الجبلية، ولكنهم معصومون من طاعتها والانقياد إليها، ولو لم توجد عندهم دواع جبلية لكانوا ملائكة أو عالماً آخر، ولما كانوا مأجورين على ترك المناهي لكونهم مقهورين على تركها، كالعنين لا يؤجر ولا يثاب على ترك الزنا؛ لأن الأجر لا يكون إلا على عمل، والترك بغير داعيةٍ ليس عملاً، وأما الترك مع الداعية فهو كف النفس عما تتشوق إليه، فهو عمل نفسي، فهو يترك هذا الشيء نتيجة مجاهدة يثاب عليها، بخلاف من تركه وليس عنده داع إليه، فالدعاة بعثوا بتزكية الناس منها؛ لئلا يكونوا قدوةً سيئة مفسدين للأخلاق والآداب، وحجةً للسفهاء على انتهاك حرمات الشرائع، وليس معناها أنهم آلهة منزهون عن جميع ما يقتضيه الطبع البشري.
هذا وقد ألصق هنا بعض المفسرين الولعين بسرد الروايات ما تلقفوه من أهل الكتاب من تلك الأقاصيص المختلقة على يوسف عليه السلام في همه، يقول القاسمي: فإني أنزه تأليفي عن نقلها بردها.
وقال العلامة أبو السعود: وكلها خرافات وأباطيل تمجها الآذان وتردها العقول والأذهان، ويل لمن لاكها ولفقها أو سمعها وصدقها.
وسبقه الزمخشري فأجاد الكلام في ردها، فلينظر فإنه مما يسر الواقف عليه.
((كذلك لنصرف عنه السوء)) أي: المنكر والفجور والمكروه.
((والفحشاء)) هي ما نتاهى قبحه ووصل في القبح إلى أقصى درجاته.
يقول أبو السعود في قوله تعالى: ((كذلك لنصرف عنه السوء والفحشاء)): آية بينة، وحجةٌ قاطعة على أنه عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام لم يقع منه همٌ بالمعصية ولا توجه إليها قط، وإلا لو كان توجه إليها لقيل: كذلك لنصرفه عن السوء والفحشاء، وإنما توجه إليه ذلك من خارج، فصرفه الله تعالى بما فيه من موجبات العفة والعصمة فتأمل.
((إنه من عبادنا المخلصين)) قرئ بكسر اللام، بمعنى الذين أخلصوا دينهم لله، وقرئ بالفتح كما في قراءة عاصم، أي: الذين أخلصهم الله لطاعته، فمعنى القراءة الثانية أن الله عصمه وحفظه وأخلصه لطاعته.
قال الشهاب: قيل: إن كل من له دخل في هذه القصة شهد ببراءة يوسف عليه السلام القاطعة، أولاً: شهد الله سبحانه وتعالى له بالبراءة كما في هذه الآية: ((كذلك لنصرف عنه السوء والفحشاء)) أي: أنه لم يقترب منه السوء والفحشاء، وهذا في غاية التنزيه له عليه السلام والسبب: ((إنه من عبادنا المخلصين)) أي: الذين أخلصناهم لطاعتنا بأن عصمناهم، أما شهادة يوسف لنفسه فقد شهد بعفته فقال: ﴿هِيَ رَاوَدَتْنِي عَنْ نَفْسِي﴾ [يوسف: ٢٦]، أما هو فلم يقع منه أدنى مراودة عليه السلام.
وكذلك امرأة العزيز نفسها شهدت بما ينزه يوسف قالت: ﴿وَلَقَدْ رَاوَدتُّهُ عَنْ نَفْسِهِ فَاسْتَعْصَمَ﴾ [يوسف: ٣٢] وسيدها أيضاً نزه يوسف وبرأه بقوله: ﴿يُوسُفُ أَعْرِضْ عَنْ هَذَا وَاسْتَغْفِرِي لِذَنْبِكِ إِنَّكِ كُنتِ مِنَ الْخَاطِئِينَ﴾ [يوسف: ٢٩]، وإبليس نفسه شهد ببراءة يوسف عليه السلام حينما قال: ﴿َلَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ * إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ﴾ [الحجر: ٣٩ - ٤٠].
فإذاً: لا سبيل لإبليس على عباد الله المخلصين ومنهم يوسف؛ لأن الله قال: ((كذلك لنصرف عنه السوء والفحشاء إنه من عبادنا المخلصين)).
ثم يقول الشهاب: فتضمن إخبار إبليس بأنه لم يغوه، ومع هذا لم يبرئه أهل القصص حينما جمعوا ركام المرويات الإسرائيلية والمخترعة والمختلقة، ولقد سماهم القا


الصفحة التالية
Icon