كتاب الله مستقيم لا عوج فيه
قال الشنقيطي: وقوله تعالى في هذه الآية الكريمة: ((وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجَا))، أي: لم يجعل في القرآن عوجاً -و (له) هنا بمعنى (فيه) - أي: لا اعوجاج فيه البتة، لا من جهة الألفاظ، ولا من جهة المعاني، أخباره كلها صدق، وأحكامه عدل؛ سالم من جميع العيوب في ألفاظه ومعانيه وأخباره وأحكامه، لأن قوله: (عوجاً) نكرة في سياق النفي، فهي تعم نفي جميع أنواع العوج.
فلا يمكن أن يحصل في القرآن أي نوع من العوج أو الاضطراب، بخلاف ما يفعله البشر، فالإنسان مهما كانت ملكاته الأدبية أو العلمية فلابد أن تجد خللاً في الكتاب، كما قال سبحانه وتعالى: ﴿وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافًا كَثِيرًا﴾ [النساء: ٨٢]، فالذي يبدأ بتأليف كتاب يكون نفسه طويلاً وفي الآخر يبدأ يضعف، بل الأسلوب في بعض المواضع يكون أضعف منه في مواضع أخرى، ولابد أن يأخذ على كل كتاب أي نقص، ما عدا كتاب الله سبحانه وتعالى، ولهذا عجز الكافر مع شدة عداوتهم له وحرصهم على إباطاله عن أن يمسكوا أي عيب أو عوج في القرآن، بل انطلقت ألسنتهم بعبارات الانبهار بإعجاز القرآن الكريم.
بخلاف ما تجرأ به أحد الملاحدة في هذا الزمان وهو طه حسين حينما كان أستاذاً في كلية الآداب، وأراد عدو الله أن يحطم قدسية القرآن الكريم، فكان يطالب طلبة الكلية بأن يتعاملوا مع القرآن كأي كتاب آخر عند النقد، فهذا من زندقته وكفره بكتاب الله عز وجل، وهذا معروف من تاريخه الأسود في عداوة الإسلام وعداوة اللغة العربية.
فهذه الآية كانت تكفي في إحباط ضلالته وزندقته: ﴿وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجَا﴾ [الكهف: ١].
فكيف يوضع كلام الله على مائدة النقد والفحص والعياذ بالله؟! قال: وما ذكره جل وعلا هنا من أنه لا اعوجاج فيه بينه في مواضع أخرى كثيرة، كقوله: ﴿وَلَقَدْ ضَرَبْنَا لِلنَّاسِ فِي هَذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ * قُرآنًا عَرَبِيًّا غَيْرَ ذِي عِوَجٍ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ﴾ [الزمر: ٢٧ - ٢٨].
وقال عز وجل: ﴿وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ صِدْقًا وَعَدْلًا﴾ [الأنعام: ١١٥]، فقوله: (صدقاً) أي: في الأخبار، قوله: (عدلاً) أي: في الأحكام، وكقوله: ﴿أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافًا كَثِيرًا﴾ [النساء: ٨٢]، والآيات في ذلك كثيرة جداً.
وقوله عز وجل: (قيماً)، أي: مستقيماً لا ميل فيه ولا زيغ، وهذا بينه أيضاً قوله تعالى: ﴿لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ مُنفَكِّينَ حَتَّى تَأْتِيَهُمُ الْبَيِّنَةُ * رَسُولٌ مِنَ اللَّهِ يَتْلُوا صُحُفًا مُطَهَّرَةً * فِيهَا كُتُبٌ قَيِّمَةٌ﴾ [البينة: ١ - ٣]، يعني: لا اعوجاج فيها.
وقال تعالى: ﴿إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ﴾ [الإسراء: ٩]، وقال عز وجل: ﴿وَمَا كَانَ هَذَا الْقُرْآنُ أَنْ يُفْتَرَى مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلَكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ الْكِتَابِ لا رَيْبَ فِيهِ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ﴾ [يونس: ٣٧].
وقال عز وجل: ﴿مَا كَانَ حَدِيثًا يُفْتَرَى وَلَكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ﴾ [يوسف: ١١١]، وقال عز وجل: ﴿ذَلِكَ الْكِتَابُ لا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ﴾ [البقرة: ٢]، وقال عز وجل: ﴿الر كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ﴾ [هود: ١]، وقال: ﴿وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُورًا نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا﴾ [الشورى: ٥٢].
وهذا الذي فسرنا به قوله تعالى: (قيماً) هو قول الجمهور، وهو الظاهر، وعليه فهو تأكيد في المعنى لقوله: (ولم يجعل له عوجاً)، لكن هذا فيه نفي العوج وإثبات القيمية؛ لأن الشيء قد يكون مستقيماً في الظاهر وهو لا يخلو من اعوجاج في حقيقة الأمر، ولذا جمع تعالى بين نفي العوج وإثبات الاستقامة.
وفي قوله: (قيماً) وجهان آخران من التفسير: الأول: أنه قيم على ما قبله من الكتب السماوية ومهيمناً عليها، وعلى هذا التفسير فالآية تكون كقوله تعالى: ﴿وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ﴾ [المائدة: ٤٨]، ولأجل هيمنته على ما قبله من الكتب قال تعالى: ﴿إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَقُصُّ عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَكْثَرَ الَّذِي هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ﴾ [النمل: ٧٦]، وقال: ﴿قُلْ فَأْتُوا بِالتَّوْرَاةِ فَاتْلُوهَا إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ﴾ [آل عمران: ٩٣]، وقال: {يَا أَهْلَ الْكِتَابِ قَدْ جَاءَكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ كَثِيرًا مِمَّا كُنْتُمْ تُخْفُونَ مِنَ الْكِتَابِ) [المائدة: ١٥]، فهذه بعض مظاهر الهيمنة والتصحيح والقيمية.
الوجه الثاني: أنه قيم بمصالح الخلق الدينية والدنيوية، قال القاسمي: وصف القرآن بأنه مكمل للخلق بعد وصفه بأنه كامل في نفسه بأل العهدية في قوله: (الذي أنزل على عبده الكتاب)، أي: الكامل في نفسه، (قيماً) يعني: الذي يعالج عوج الناس ويزيل العوج الذي في الخلق، ويحقق لهم مصالحهم الدينية والدنيوية.