تفسير قوله تعالى: (ألم تعلم أن الله له ملك السماوات والأرض)
قال تبارك وتعالى: ﴿أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ لَهُ مُلْكُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ﴾ [البقرة: ١٠٧].
(ألم تعلم أن الله له ملك السماوات والأرض) أي: يفعل فيهما ما يشاء سبحانه وتعالى، (وما لكم من دون الله) أي من غير الله، (من ولي) (من) زائدة، والأصل أن تكون: (ما لكم من دون الله ولي ولا نصير)، (من ولي) يحفظكم (ولا نصير) يمنع عذابه عنكم إن أتاكم.
يقول القاسمي: (ألم تعلم أن الله له ملك السماوات والأرض) فهو يملك أموركم ويدبرها، وهو أعلم بما يتعبدكم به من ناسخ أو منسوخ، (وما لكم من دون من ولي) يلي أموركم (ولا نصير) أي: ناصر يمنعكم من العذاب، وقضية العلم بما ذكر من الأمور الثلاثة هو الجزم والإيقان؛ لأنه تعالى لا يفعل بهم في أمر من أمور دينهم أو دنياهم إلا ما هو خير لهم، والعمل بموجبه من الثقة به، والتوكل عليه، وتفويض الأمر إليه، فهذا الخطاب وربط هذا الموقف بصفة علم الله سبحانه وتعالى فيه إرشاد المؤمنين إلى أن يحسنوا ظنهم بربهم تبارك وتعالى، ويؤمنوا به حق الإيمان، ويعلموا أن الله سبحانه وتعالى لا يريد فيهم في الدين ولا في الدنيا إلا ما هو الخير والأفضل لهم.
وفيه إرشاد إلى عدم الإصغاء إلى أقاويل اليهود وتشكيكاتهم التي من جملتها ما قالوا في أمر النسخ.
ويجب أن نستصحب هنا أن هذه الآيات كلها تمهيد لما سيأتي عما قريب من الآيات التي فيها نسخ القبلة، فهنا نوع من الإرهاصات والتمهيد في القرآن الكريم لما سيأتي عما قريب من نسخ القبلة، فالسبب: تمهيد لقلوب المؤمنين كي لا تفتتن بأقاويل اليهود وتشكيكاتهم بسبب ما وقع من تغيير القبلة، كذلك أيضاً الآيات التي ستأتي عما قريب وفيها قصة إبراهيم عليه السلام وإسماعيل وبناء البيت والتنويه بعظمة البيت وشرفه وعلو مقامه، ففيها أيضاً تنويه إرهاص وتقدمة بين يدي تحويل القبلة من بيت المقدس إلى البيت الحرام.
فالمقصود: أن ينتفي عن المؤمنين الإصغاء إلى أقاويل اليهود وتشكيكاتها التي من جملتها ما قالوا في أمر النسخ، حيث أنكروا نسخ أحكام التوراة، وقالوا: إن التوارة أحكامها لا تنسخ، ولذلك جحدوا نبوة عيسى ومحمد عليهما الصلاة والسلام لمجيئهما من عند الله بتغيير من حكم التوارة، فأخبرهم الله سبحانه وتعالى أن له ملك السماوات والأرض وسلطانهما، وأن الخلق أهل مملكته وطاعته، عليهم السمع والطاعة لأمره ونهيه، وأن له أمرهم بما يشاء، ونهيهم عما يشاء، ونسخ ما يشاء، وإقرار ما يشاء، والذي حمل اليهود على منع النسخ إنما هو الكفر والعناد، وإلا فقد وجد في شريعتهم النسخ بكثرة، وقد كثرت المطاعن التي يأخذها المستشرقون والببغاوات الذين يوردون شبهاتهم من وقوع النسخ في القرآن الكريم، وقد تولى الجواب عنها برد مفحم واف العلامة ابن خليل الرحمن الهندي رحمه الله في كتابه: إظهار الحق، وهو من أروع الكتب التي فيها تفنيد عقيدة النصارى، حيث ذكر فيه أمثلة وافرة مما وقع من النسخ في التوراة والإنجيل، وهي موجودة في الباب الثالث من هذا الكتاب.
قال بعض الفضلاء: نزلت هذه الآية لما قال المشركون أو اليهود: إن محمداً ﷺ يأمر أصحابه بأمر ثم ينهاهم عنه ويأمر بخلافه، يشيرون إلى ما وقع من النسخ في بعض الأحكام، وفي الآية رد عليهم؛ لأن المقصود بنسخ الحكم السابق تهيئة النفوس لأرقى منه، وحتى ترقى النفوس إلى ما هو أعلى منه وأفضل، وهو معنى قوله تعالى: (نأت بخير منها)؛ لأن الخالق تعالى ربى الأمة المسلمة في ثلاث وعشرين سنة تربية تدريجية لا تتم لغيرها بواسطة العوامل الاجتماعية إلا في قرون عديدة، لذلك كان نزول الأحكام عليها على حسب قابليتها، ومتى ارتقت قابليتها بدل الله لها ذلك الحكم بغيره، وهذه سنة الخالق عز وجل في الأفراد والأمم على حد سواء، فإنك لو نظرت في الكائنات الحية من أول الخلية النباتية إلى أرقى شكل من أشكال الأشجار، ومن أول رتبة من رتب الحيوانات إلى الإنسان؛ لرأيت أن النسخ ناموس طبيعي محسوس في الأمور المادية والأدبية معاً، فإن انتقال الخلية الإنسانية إلى جنين، ثم إلى طفل فيافع فشاب فكهل فشيخ، وما يتبع كل دور من هذه الأدوار من الأحوال الناسخة للأحوال التي قبلها يريك الدليل على أن التبدل في الكائنات ناموس طبيعي محقق، وإذا كان هذا النسخ ليس بمستنكر في الكائنات فكيف يستنكر نسخ حكم وإبداله بحكم آخر في الأمة، وهي في حالة نمو وتدرج من الأدنى إلى الأرقى، فهذا باختصار ما أشار إليه القاسمي في هذا المعنى.