تفسير قوله تعالى: (ود كثير من أهل الكتاب لو يردونكم من بعد إيمانكم كفاراً)
قال عز وجل: ﴿وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّارًا حَسَدًا مِنْ عِنْدِ أَنفُسِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ فَاعْفُوا وَاصْفَحُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ﴾ [البقرة: ١٠٩].
(ود كثير من أهل الكتاب لو يردونكم) (لو) هنا مصدرية، ولو تأتي بمعنى أن، كقوله: ﴿وَوَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ﴾ [الممتحنة: ٢] أي: ودوا أن تكفروا، كذلك هنا (لو) مصدرية بمعنى أن كقول الشاعر: ما كان ضرك لو مننت وربما منَّ الفتى وهو المريض المحنق (لو يردونكم من بعد إيمانكم كفاراً حسداً) هذا مفعول له (من عند أنفسهم) يعني: حسداً كائنا ًمن عند أنفسهم حملتهم عليه أنفسهم الخبيثة، وهذه إشارة إلى أن الحسد إنما هو من أخلاق الكفار، وأنه يتنافى مع الإيمان، فالمؤمن ليس بحسود، ونرى في كثير من آيات القرآن أن الحسد قرين الكفر، وهو تمني زوال نعمة الله عز وجل عن الغير، (من بعد ما تبين لهم الحق) الموجود في التوراة في شأن النبي صلى الله عليه وسلم، (فاعفوا) عنهم، واتركوهم، وأعرضوا عنهم، (واصفحوا) أي: أعرضوا عنهم فلا تجازوهم بما يقولون، (حتى يأتي الله بأمره) فيهم من القتال، (إن الله على كل شيء قدير).
يقول الشنقيطي رحمه الله تعالى موضحاً بصورة أوسع المراد بقوله تعالى: (فاعفوا واصفحوا حتى يأتي الله بأمره): هذه الآية في أهل الكتاب كما هو واضح من السياق، والأمر في قوله تعالى: (حتى يأتي الله بأمره) قال بعض العلماء: هو واحد الأوامر، يعني: كلمة (أمره) مفرد، جمعها أوامر أو أمور، فأتى هنا بلفظ المفرد فاحتمل أن يكون (حتى يأتي الله بأمره) المقصود به الأمر الذي جمعه أوامر، أو بأمره الأمر الذي جمعه أمور، يقول: قال بعض العلماء الأمر هو واحد الأوامر، وقال بعضهم: هو واحد الأمور، فعلى القول الأول بأنه الأمر الذي هو ضد النهي فإن الأمر المذكور وهو المصرح به في قوله: ﴿قَاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلا بِالْيَوْمِ الآخِرِ وَلا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ﴾ [التوبة: ٢٩]، وتكون مشابهة لقوله تعالى: ﴿حَتَّى يَتَوَفَّاهُنَّ الْمَوْتُ أَوْ يَجْعَلَ اللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلًا﴾ [النساء: ١٥]، والسبيل هو ما نزل فيما بعد من الأحكام فيما يتعلق بالمرأة التي تأتي الفاحشة، فكذلك هنا: (حتى يأتي الله بأمره) إذا قلنا: أمره هو واحد الأوامر، فالمعنى اصبروا واعفوا عنهم ولا تجازوهم إلى أن يأمركم الله بجهادهم، وجهاد أهل الكتاب شرع في سورة التوبة في قوله تعالى: ﴿قَاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلا بِالْيَوْمِ الآخِرِ وَلا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ﴾ [التوبة: ٢٩].
وعلى القول بأن الأمر.
واحد الأمور، فهو ما صرح الله سبحانه وتعالى به في الآيات الدالة على ما أوقع في اليهود من القتل والتشريد؛ كقوله تعالى: ﴿فَأَتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُمْ بِأَيْدِيهِمْ وَأَيْدِي الْمُؤْمِنِينَ فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الأَبْصَارِ * وَلَوْلا أَنْ كَتَبَ اللَّهُ عَلَيْهِمُ الْجَلاءَ لَعَذَّبَهُمْ فِي الدُّنْيَا وَلَهُمْ فِي الآخِرَةِ عَذَابُ النَّارِ﴾ [الحشر: ٢ - ٣]، والآية غير منسوخة على التحقيق، والنسخ الذي يقصده الشنقيطي رحمه الله تعالى هنا هو النسخ الاصطلاحي، فبعض الناس يقولون: إن آية براءة نسخت كل موادعة، نسخت الآيات الآمرة بالعفو والصفح والصبر والإعراض وعدم مؤاخذة المشركين والصبر على أذاهم، فيقول: الآية غير منسوخة على التحقيق، فإن لكل مقام مقالاً، ولكل حدث حديثاً، ففي حالة الضعف كان هذا هو التكليف الخاص بالمؤمنين أن يصبروا ويعفوا ويصفحوا إلى أن يأتي أمر الله بجهادهم.
يقول تبارك وتعالى: ﴿وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَمَا تُقَدِّمُوا لِأَنفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ﴾ [البقرة: ١١٠] أي: من طاعة كصلة رحم وصدقة (تجدوه) أي: تجدوا ثوابه ﴿تجِدُوهُ عِنْدَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ﴾ [البقرة: ١١٠] يعني: فيجازيكم به سبحانه وتعالى.