تفسير قوله تعالى: (وما منع الناس أن يؤمنوا وجعلنا لمهلكهم موعداً)
ثم يقول تعالى: ﴿وَمَا مَنَعَ النَّاسَ أَنْ يُؤْمِنُوا إِذْ جَاءَهُمُ الْهُدَى وَيَسْتَغْفِرُوا رَبَّهُمْ إِلَّا أَنْ تَأْتِيَهُمْ سُنَّةُ الأَوَّلِينَ أَوْ يَأْتِيَهُمُ الْعَذَابُ قُبُلًا * وَمَا نُرْسِلُ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ وَيُجَادِلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالْبَاطِلِ لِيُدْحِضُوا بِهِ الْحَقَّ وَاتَّخَذُوا آيَاتِي وَمَا أُنْذِرُوا هُزُوًا * وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ ذُكِّرَ بِآيَاتِ رَبِّهِ فَأَعْرَضَ عَنْهَا وَنَسِيَ مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ إِنَّا جَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذَانِهِمْ وَقْرًا وَإِنْ تَدْعُهُمْ إِلَى الْهُدَى فَلَنْ يَهْتَدُوا إِذًا أَبَدًا * وَرَبُّكَ الْغَفُورُ ذُو الرَّحْمَةِ لَوْ يُؤَاخِذُهُمْ بِمَا كَسَبُوا لَعَجَّلَ لَهُمُ الْعَذَابَ بَلْ لَهُمْ مَوْعِدٌ لَنْ يَجِدُوا مِنْ دُونِهِ مَوْئِلًا * وَتِلْكَ الْقُرَى أَهْلَكْنَاهُمْ لَمَّا ظَلَمُوا وَجَعَلْنَا لِمَهْلِكِهِمْ مَوْعِدًا﴾ [الكهف: ٥٥ - ٥٩].
((وما منع الناس)) أي: أهل مكة الذين حكيت أباطيلهم وكل من شاكلهم.
((أن يؤمنوا)) أي: من أن يؤمنوا بالله تعالى ويتركوا الشرك.
((إذ جاءهم الهدى)) القرآن والحق الواضح النير، ((ويستغفروا ربهم)) عن المعاصي السالفة.
((إلا أن تأتيهم سنة الأولين)) يعني: إلا أنهم كانوا يطلبون إتيان سنة الأولين، أو انتظار إتيان سنة الأولين وهي عذاب الاستئصال.
((أو يأتيهم العذاب قبلاً)) أي: يرونه عياناً ومواجهة، وهو عذاب الآخرة أو أعم، والقبل بضمتين بمعنى العيان كما في قراءة (قِبَلاً) أو (قُبُلاً)، جمع قبيل بمعنى: أنواعاً مختلفة، وقرأ بفتحتين ((أو يأتيهم العذاب قَبَلًا)) أي: مستقبلاً.
((وما نرسل المرسلين إلا مبشرين ومنذرين)) أي: وما نرسلهم قبل إنزال العذاب إلا لتبشير من آمن بالزلفى والكرامة، وإنذار من كفر بأن تأتيه سنة من مضى.
((ويجادل الذين كفروا بالباطل)) يجادلون ويقترحون آيات، ((ليدحضوا به الحق)) أي: ليزيلوا بالجدال الحق الثابت عن مقره، وليس ذلك بحاصل لهم.
وأصل الإدحاض: إزلاق القدم وإزالتها عن موطئها، فاستعير من زلل القدم المحسوس لإزالة الحق المعقول.
قال الشهاب: ولك أن تقول: فيه تشبيه كلامهم بالوحل المستكره، وأنشد لنفسه: أتانا بوحل لإنكاره ليزلق أقدام هذي الحجج فكأن كلامهم وجدالهم مثل الوحل يضعوه أمام الحق حتى يزيلوه عن مكانه، لكن الحق ثابت مستقر لا يؤثر فيه ذلك.
((وَاتَّخَذُوا آيَاتِي وَمَا أُنْذِرُوا هُزُوًا)).
(ما) إما مصدرية، يعني: واتخذوا آياتي وإنذاري إياهم هزواً، أو (ما) موصولة، يعني: واتخذوا الذي أنذروا به من العقاب هزوا، أي: استهزاءاً وسخرية، وهو أشد التكذيب، حيث وصف بالمصدر مبالغة.
ثم يقول تعالى: ((وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ ذُكِّرَ بِآيَاتِ رَبِّهِ فَأَعْرَضَ عَنْهَا))، كناية عن عدم تدبرها والاستعاض بها بأبلغ أسلوب.
((ونسي ما قدمت يداه)) أي: ما عمله من الكفر والمعاصي، وصرف ما أنعم به عليه إلى غير ما خلقت له، فلم يتفكر في عاقبة ذلك.
((إِنَّا جَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ))، أي: جعلنا عليها حجباً وأغطية كثيرة كراهة أن يفقهوه، أي: يقفوا على كنه ما خلقت النعم من أجله.
((وَفِي آذَانِهِمْ وَقْرًا)) أي: وجعلنا فيها ثقلاً يمنعهم من استماعه، والجملة تعريض بإعراضهم ونسيانهم.
يعني: فأعرض عنها ونسي ما قدمت يداه لأنا ((إِنَّا جَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذَانِهِمْ وَقْرًا))، فالجملة تعريض بأن إعراضهم ونسيانهم مطبوعان على قلوبهم، وذلك لإيثارهم الضلال على الهدى، كما قال تعالى: ﴿فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ﴾ [الصف: ٥].
((وَإِنْ تَدْعُهُمْ إِلَى الْهُدَى فَلَنْ يَهْتَدُوا إِذًا أَبَدًا))، أي: فما يكون منهم اهتداء البتة.
وقوله: ((وَرَبُّكَ الْغَفُورُ ذُو الرَّحْمَةِ لَوْ يُؤَاخِذُهُمْ بِمَا كَسَبُوا لَعَجَّلَ لَهُمُ الْعَذَابَ بَلْ لَهُمْ مَوْعِدٌ لَنْ يَجِدُوا مِنْ دُونِهِ مَوْئِلًا))، والآيات في هذا المعنى كثيرة، كقوله تعالى: ﴿وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِمَا كَسَبُوا مَا تَرَكَ عَلَى ظَهْرِهَا مِنْ دَابَّةٍ﴾ [فاطر: ٤٥]، وقوله: ﴿وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ لِلنَّاسِ عَلَى ظُلْمِهِمْ﴾ [الرعد: ٦].
((وربك الغفور ذو الرحمة)) ربك: مبتدأ، والغفور: خبره، وقدم الوصف بالمغفرة على الرحمة لأنه أهم بحسب الحال، والمقام مقام بيان تأخير العقوبة عنهم بعد استحقاقهم له كما يعرب عنه قوله: ((لو يؤاخذهم بما كسبوا)) والموعد المذكور هو بدر، أو الفتح المشار إليه في كثير من الآيات، أو يوم القيامة، والكل لاحق بهم، يعني أن الله لم يعجل لهم العذاب، ((بل لهم موعد لن يجدوا من دونه موئلاً)) محيصاً أو مفراً أو ملجأ أو منجى.
قوله: ((وَتِلْكَ الْقُرَى أَهْلَكْنَاهُمْ لَمَّا ظَلَمُوا وَجَعَلْنَا لِمَهْلِكِهِمْ مَوْعِدًا)).
((وتلك القرى)) قرى عاد وثمود وأضرابهم، ((أهلكناهم لما ظلموا)) بالكفر والطغيان.
((وجعلنا لمهلكهم موعداً)) وقتاً معيناً لا محيد لهم عنه، وهذا استشهاد على ما فعل بقريش من تعيين الموعد ليتنبهوا لذلك ولا يغتروا بتأخر العذاب، أي: إن تأخر عنكم العذاب فلا تستعجلوا فهناك موعد لابد أنه آتيكم.