تفسير قوله تعالى: (قال له صاحبه فلن تستطيع له طلباً)
يقول تبارك وتعالى: ﴿قَالَ لَهُ صَاحِبُهُ وَهُوَ يُحَاوِرُهُ أَكَفَرْتَ بِالَّذِي خَلَقَكَ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ سَوَّاكَ رَجُلًا * لَكِنَّا هُوَ اللَّهُ رَبِّي وَلا أُشْرِكُ بِرَبِّي أَحَدًا * وَلَوْلا إِذْ دَخَلْتَ جَنَّتَكَ قُلْتَ مَا شَاءَ اللَّهُ لا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ إِنْ تُرَنِ أَنَا أَقَلَّ مِنْكَ مَالًا وَوَلَدًا * فَعَسَى رَبِّي أَنْ يُؤْتِيَنِ خَيْرًا مِنْ جَنَّتِكَ وَيُرْسِلَ عَلَيْهَا حُسْبَانًا مِنَ السَّمَاءِ فَتُصْبِحَ صَعِيدًا زَلَقًا * أَوْ يُصْبِحَ مَاؤُهَا غَوْرًا فَلَنْ تَسْتَطِيعَ لَهُ طَلَبًا﴾ [الكهف: ٣٧ - ٤١].
((قال له صاحبه)) الذي عيره بالفقر، وقال له وهو يعيره بما يستحق أن يعير به، فهو يعيره بالفقر وهذا لا يد له فيه، والفقر ليس مما يعير به لأن المال غاد ورائح، فرد عليه وعيره بالكفر، فقال: ((أكفرت بالذي خلقك من تراب)).
وقوله: ((وهو يحاوره)) أي: يراجعه كلام التعيير على الفقر وفي سياق الإنكار عليه في هذا المسلك: ((أكفرت بالذي خلقك من تراب)) فجعل التراب نباتاً، ثم جعله غذاء يتولد منه النطفة، (ثم سواك رجلاً)، أي: كملك وعدلك فكنت إنساناً ذكراً بالغاً مبلغ الرجال.
قال أبو السعود: والتعبير عنه تعالى بالموصول للإشعار بعلية ما في حيز الصلة لإنكار الكفر.
يعني: لم يقل تعالى: (قال له صاحبه وهو يحاوره أكفرت بالله)، بل آثر النص الكريم استعمال لفظ (الذي)؛ لأن (الذي) ستأتي بعده صفة من صفات الله سبحانه وتعالى، وفعل مهم له تعلق أساسي بهذا الموضوع، يشعر بعلية ما في حيز الصفة لإنكار الكفر، يعني: إنما أنكر عليك الكفر لأنك كفرت بالله وقد خلقك من تراب، ثم من نطفة، ثم سواك رجلاً، والتلويح بدليل البعث الذي وافق به قوله عز من قائل: ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِنَ الْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ﴾ [الحج: ٥] إلى آخره، فهو يريد في هذا السياق استعمال الاسم الموصول بدل لفظ الجلالة الصريح لإنكار الكفر عليه.
ثانياً: للتلويح بدليل البعث والنشور؛ لأن الله إذا كان هو الذي خلقنا من تراب فإنه سبحانه وتعالى أقدر على أن يبعثنا بعد أن نموت ونصير تراباً، كما قد صرح به تعالى في قوله: ((يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِنَ الْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ تُرَابٍ))، وكما قال تعالى: {كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَكُنتُمْ أَمْوَاتًا فَأَحْيَاكُمْ) [البقرة: ٢٨].
قال ابن كثير: أي: كيف تجحدون ربكم، ودلالته عليكم ظاهرة جلية، كل أحد يعلمها من نفسه؛ فإنه ما من أحد من المخلوقات إلا ويعلم أنه كان معدوماً ثم وجد، وليس وجوده من نفسه، ولا مستنداً إلى شيء من المخلوقات؛ لأنه بمثابته.
أي: كيف يستند وجوده إلى موجود مثله؟! وهو مثله عاجز عن أن يفعل ذلك.
قال: فعلم إسناد إيجاده إلى خالقه، وهو الله الذي لا إله إلا هو خالق كل شيء، ولهذا قال المؤمن: ((لَكِنَّا هُوَ اللَّهُ رَبِّي وَلا أُشْرِكُ بِرَبِّي أَحَدًا))، أي: لكن أنا لا أقول بمقالتك، بل أعترف لله بالوحدانية والربوبية، ((ولا أشرك بربي أحداً)) أي: بل هو الله المعبود وحده لا شريك له من العلويات والسفليات، لا أحد من والسماوات ولا من الأرضين.
وقرأ ابن عامر (لكنا) بإثبات الألف وصلاً ووقفاً، وقرأ حفص بحذفها وصلاً وبإثباتها وقفاً، فالوقف أصله لكن أنا، فحذفت الهمزة ثم أدغمت النون في مثلها فصار (لكن) ثم ألحق ألف إجراء للوصل مجرى الوقف، لأن الوقف على (أنا) بالألف، ولأن الألف تدل على أن الأصل (لكن أنا) وبغيرها يلزم اللبس بينها وبين (لكنَّ) المشددة.
قال الزمخشري: ونحوه قول القائل: وترمينني بالطرف أي أنت مذنب وتقلينني لكن إياك لا أقلي أي: أنا لا أقليك، والقلى هو الهجر، ومنه قول الآخر: ولو كنت ضبياً عرفت قرابتي ولكنّ زنجي عظيم المشافر يعني: ولكن أنا زندي عظيم المكاسر.