خطر الخوض في تنزيل أشراط الساعة على الواقع
ونحتاج وقفة يسيرة هنا مع ظاهرة مؤلمة تتكرر بين وقت وآخر: وهي ظاهرة الاستناد إلى مرويات أهل الكتاب والإسرائيليات، فهذا من الشيء المؤسف جداً، الآن توجد موجة كاسحة في عالم التأليف عن أشراط الساعة، حتى يكاد الناس يقولون: فلان هو فلان المذكور في كذا، إما أحاديث ضعيفة أو موضوعة، أو أن اعتماده على أحاديث مأخوذة من كتب الشيعة وكذبهم وضلالهم، وإما من كلام أهل الكتاب والإسرائيليات، ويحاولون أن يطبقوها على الواقع، يقول لك: إن صدام حسين هو السفياني.
هذه الموضة كانت بدأت منذ سنوات، وكان معظم الناس يتكلمون ويقولون: إن العام الحاسم هو عام (١٩٩٧)، ثم مرت سنة (١٩٩٧) وحصل ما حصل.
فالرجم بالغيب، والإخبار عن المستقبل أو تنزيل النصوص على الواقع بدون بينة من الشرع، يعتبر من التقول على الله سبحانه وتعالى بغير علم، وموافقة لهوى النفس، فالإنسان يجد دافعاً داخلياً للاستجابة، لكن الأحداث لا تسير حسب الأماني، ونحن إنما نفرح حينما نعلم أنه سيكون النصر في النهاية للمسلمين.
كما حصل أيضاً في فتنة الخليج قالوا: هذه هي الملحمة بيننا وبين اليهود والنصارى في فلسطين، وستحصل الملحمة الكبرى في المنطقة المعروفة بالشام، ونحن إن كنا نوقن بأن الملحمة ستقع؛ لأن الرسول عليه السلام أخبر بذلك في أحاديث صحيحة، إلا أننا لا نطبقها على الواقع إلا إذا وقعت، فلا يصلح أن نستدعي أحداث آخر الزمان بإرادتنا، هذه أمور كونية قدرية ستقع حتماً، لكن كما شاء الله ومتى شاء الله، ونحن مسئولون فقط عن الإيمان بها إيماناً مجملاً، أما تنزيلها على الأعيان والزمان فهو تقول على الله بغير علم.
وقد حصل الخلل في مثل هذا الأمر في حادثة المهدي في مطلع القرن الخامس عشر الهجري، سنة ألف وأربعمائة هجرية، لما حصل الاعتصام في الحرم؛ لأنهم كانوا يريدون تسرعة الأحداث بأيديهم، فأخرجوا المهدي من بينهم، وخططوا لذلك في ضوء أحاديث ضعيفة ونحو ذلك؛ فحصل ما حصل من انتهاك حرمات الله عز وجل.
فنحن غير مسئولين عن أشراط الساعة وغير مكلفين بأن نجتلبها، والأحداث ستسير وفق ما حدده الله لا الهوى، وتأتي رواية تقول لك: توجد روايات في التوراة تقول كذا، وإن السفياني رجل جبار وقاسي القلب، لكن يهزم إلخ، وينتهي في النهاية نهاية سعيدة، وبلا شك -إن شاء الله- ستكون نهاية سعيدة للمسلمين، ويمكن لهم الله سبحانه وتعالى، آجلاً أو عاجلاً، كما وعدنا الله سبحانه وتعالى، لكن الخطر في أن هذه التحليلات تمثل حرباً نفسية، لأن إسرائيل كأنها إذا أرادت فلا مرد لإرادتها ولا لأمرها، فهذه نوع من الحرب النفسية ومساهمة في نشر الأراجيف بين المسلمين.
قد كنت أنتظر مرور سنة (١٩٩٧) هذه بأي طريقة، حتى أقول هذا الكلام، وجاءت الآن المناسبة، أين العامة التي كانت تلهج بذكر سنة (١٩٩٧) وبما سيكون فيها؟ وجاء الوقت الآن وبدأت الجعجعة لسنة ألفين، لكن نقول: الغيب لا يعلمه إلا الله سبحانه وتعالى، أما أن نلهو بالغيب بناءً على إسرائيليات لا نعرف صدقها من كذبها، أو بناءً على منامات، أو حديث موضوع، أو اقتباسات من كتب الشيعة الكذابين الذين هم أكذب الفرق في القديم والحديث، ثم بعد ذلك نمني أنفسنا ونهرب من الواقع إلى هذه الخيالات، فهذا مما لا يليق بالمسلم.
فلنكف عن الخوض في هذه الموجة النازلة، حتى الكتب أصبحت كثيرة في هذا الباب، والكل يكتب عن أشراط الساعة، ويرتب بعضها على بعض، ولماذا صدام حسين خصيصاً؟! وما الذي يعجب في صدام حسين السفاح المجرم الأفاك الأثيم؟! أليس هو الذي جلب لنا كل هذا الشؤم؟! حرب الخليج تعتبر مثل حادثة الفيل في استعمالها للتأريخ؛ لأنها فصلت بين حقبتين تاريخيتين، فهي فتحت أمامها الشر والذل والهوان الذي نحن فيه الآن، إذ أن الجيوش الأمريكية والإنجليزية التي أرسلت صارت الآن تخزن أسلحتها في فلسطين المحتلة، وأصبح من حق اليهود استعمالها عند الضرورة -خدمة ما بعدها خدمة- وبعض المساكين السذج في الصدام الأخير المزعوم بين صدام حسين وأمريكا لم يلتفت إلى أن الغرض هو إيجاد المبرر لزيادة هذه القوات، والناس ظنوا أن أمريكا تراجعت، لا.
بل وجدت المبرر لحشد القوات في هذه المنطقة.
صحيح عند النصارى توجه في أمريكا، وبلا شك عند اليهود يقين بوقوع ملحمة هرمجدون، وربما هي التي يسميها الرسول عليه الصلاة والسلام الملحمة الكبرى، فهم يزعمون أن النصر سيكون حليفهم في النهاية، ولكن قطعاً سيكون النصر حليف المسلمين كما أخبر بذلك الصادق المصدوق، ولكن متى؟ لا ندري، وهذه الملحمة في الشام في مكان حدده النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم بكل دقة، أما أن نقول: إن حرب الخليج كانت هي الملحمة وسيحصل كذا وكذا.
إذاً: الإنسان لا يرجم بالغيب وينتظر أن تقع الأشياء بصورة لا تقبل التأويل، ثم نقول: هذا الذي كان مقصوداً بقول النبي صلى الله عليه وسلم، أما أن ننسى الأحاديث، ومنهج أهل السنة والجماعة، ومنهج المحدثين، ونتشبث بأحلام ومنامات، ومنها أحلام نصرانية أو كتابية، أو أحاديث إسرائيلية، وأحاديث ضعيفة وموضوعة بالذات من قبل الشيعة، فهم يجيدون الكذب في مثل هذه الأشياء، فهذا ليس هو المنهج الصحيح، والقضية تحتمل كلاماً مفصلاً، لكن هذه إشارة عابرة باعتبارها أول فرصة مناسبة نتكلم فيها على هذا الأمر.
يقول الشنقيطي: فقولكم لو كانوا موجودين وراء السد إلى الآن لاطلع عليهم الناس غير صحيح؛ لإمكان أن يكونوا موجودين والله يخفي مكانهم على عامة الناس، حتى يأتي الوقت المحدد لإخراجهم على الناس، ومما يؤيد إمكان هذا ما ذكره تعالى في سورة المائدة من أنه جعل بني إسرائيل يتيهون في الأرض أربعين سنة، وذلك في قوله تعالى: ﴿قَالَ فَإِنَّهَا مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ أَرْبَعِينَ سَنَةً يَتِيهُونَ فِي الأَرْضِ﴾ [المائدة: ٢٦]، وهم في فراسخ قليلة من الأرض، يمشون ليلهم ونهارهم ولم يطلع عليهم الناس حتى انتهى أمد التيه؛ لأنهم لو اجتمعوا بالناس لبينوا لهم الطريق، وعلى كل حال فربك فعال لما يريد.
وأخبار رسوله ﷺ الثابتة عنه صادقة، وما يوجد بين أهل الكتاب مما يخالف ما ذكرنا ونحوه من القصص الواردة في القرآن والسنة الصحيحة زاعمين أنه منزل في التوراة أو غيرها من الكتب السماوية باطل يقيناً لا يعول عليه؛ لأن الله جل وعلا صرح في هذا القرآن العظيم الذي لا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ تَنزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ؛ بأنهم بدلوا وحرفوا وغيروا في كتبهم، كقوله: ﴿يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ﴾ [النساء: ٤٦]، وقوله: ﴿تَجْعَلُونَهُ قَرَاطِيسَ تُبْدُونَهَا وَتُخْفُونَ كَثِيرًا﴾ [الأنعام: ٩١]، وقوله: ﴿فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتَابَ بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هَذَا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ لِيَشْتَرُوا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا فَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ وَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا يَكْسِبُونَ﴾ [البقرة: ٧٩]، وقوله تعالى: ﴿وَإِنَّ مِنْهُمْ لَفَرِيقًا يَلْوُونَ أَلْسِنَتَهُمْ بِالْكِتَابِ لِتَحْسَبُوهُ مِنَ الْكِتَابِ وَمَا هُوَ مِنَ الْكِتَابِ وَيَقُولُونَ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَمَا هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَيَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ﴾ [آل عمران: ٧٨]، إلى غير ذلك من الآيات العظيمة.
بخلاف هذا القرآن العظيم، فقد تولى الله جل وعلا حفظه بنفسه ولم يكله إلى أحد، حتى يغير فيه أو يبدل أو يحرف، كما قال تعالى: ﴿إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ﴾ [الحجر: ٩]، وقال: ﴿لا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ * إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ﴾ [القيامة: ١٦ - ١٧]، وقال: ﴿لا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ﴾ [فصلت: ٤٢]، وقال في النبي صلى الله عليه وسلم: ﴿وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى﴾ [النجم: ٣ - ٤].
ولما رأى النبي عليه السلام صحيفة من التوراة في يد بعض الصحابة غضب غضباً شديداً، وقال: (أمتهوكون أنتم كما تهوكت اليهود والنصارى؟ لقد جئتكم بها بيضاء نقية، والله لو كان موسى حياً ما وسعه إلا اتباعي)، فالموضة الجديدة الآن: جاء في الآثار كذا وكذا، وفي الإنجيل كذا، وفي التوراة كذا، هذا مما ينبغي عدم التسامح فيه، وتوجد حالات قليلة عند مناظرة أهل الكتاب نلزمهم فيها بما في كتبهم من الأشياء التي توافق ما عندنا، وتدعم الإيمان بنبوة النبي عليه السلام، فهذه يمكن أن تستخدم في مجال معين كالاستدلال بها، أما أن يسمى عندنا: (كتاب مقدس) وبعض الناس يقول: وجاء في الكتاب المقدس، من قال لك: إنه هو الكتاب المقدس؟ لذلك بعض الإخوة ذوي الفطانة كتب ضمن المراجع في آخر الكتاب: المرجع رقم كذا الكتاب المقدس عندهم، لأنه ليس مقدساً عندنا، نحن نؤمن بالتوراة وبالإنجيل بلا شك، لكن هل الذي في أيديهم الآن هو الذي أنزله الله، أم أنه اختلط حقه بباطل كثير؟ كما قال ابن القيم: (ما عند أهل الكتاب في كتبهم باطله أضعاف أضعاف حقه، والحق الذي فيه منسوخ)، فنحن في غنى عن أن ننظر في مثل هذه الكتب، نحن نؤمن بالتوراة التي نزلت على موسى، ونؤمن بالإنجيل الذي نزل على عيسى، لا أربعة أناجيل على الأقل، فأيها الصحيح؟ وهي متناقضة ومتعارضة، وفيها من الكذب والتحريف ما فيها، فموضوع التسامح في مثل هذا مما يهدد العقيدة.
وقد صح عن النبي ﷺ أنه أذن لأمته أن تحدث عن بني إسرائيل، ونهاهم عن تصديقهم وتكذيبهم، خوف أن يصدقوا بباطل أو يكذبوا بحق، ومن المعلوم أن ما يروى عن بني إسرائيل من الأخبار المعروفة بالإسرائيليات له ثلاث حالات: في واحدة منها يج


الصفحة التالية
Icon