تفسير قوله تعالى: (ويسألونك عن ذي القرنين من أمرنا يسراً)
﴿وَيَسْأَلُونَكَ عَنْ ذِي الْقَرْنَيْنِ قُلْ سَأَتْلُوا عَلَيْكُمْ مِنْهُ ذِكْرًا * إِنَّا مَكَّنَّا لَهُ فِي الأَرْضِ وَآتَيْنَاهُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ سَبَبًا * فَأَتْبَعَ سَبَبًا * حَتَّى إِذَا بَلَغَ مَغْرِبَ الشَّمْسِ وَجَدَهَا تَغْرُبُ فِي عَيْنٍ حَمِئَةٍ وَوَجَدَ عِنْدَهَا قَوْمًا قُلْنَا يَا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِمَّا أَنْ تُعَذِّبَ وَإِمَّا أَنْ تَتَّخِذَ فِيهِمْ حُسْنًا * قَالَ أَمَّا مَنْ ظَلَمَ فَسَوْفَ نُعَذِّبُهُ ثُمَّ يُرَدُّ إِلَى رَبِّهِ فَيُعَذِّبُهُ عَذَابًا نُكْرًا * وَأَمَّا مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَهُ جَزَاءً الْحُسْنَى وَسَنَقُولُ لَهُ مِنْ أَمْرِنَا يُسْرًا﴾ [الكهف: ٨٣ - ٨٨].
قال الله: ((وَيَسْأَلُونَكَ عَنْ ذِي الْقَرْنَيْنِ))، يقول القاسمي رحمه الله تعالى: وهو الإسكندر الكبير المقدوني، وسنذكر وجهة تسميته أو تلقيبه بذلك.
((قُلْ سَأَتْلُوا عَلَيْكُمْ مِنْهُ ذِكْرًا))، أي: نبأً مذكوراً معجزاً أنزله الله علي.
((إِنَّا مَكَّنَّا لَهُ فِي الأَرْضِ))، أي: بالقوة والرأي والتدبير والسعة في المال والاستظهار بالعدد، وعظم الصيت، وكبر الشهرة.
((وَآتَيْنَاهُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ سَبَبًا))، أي: طريقاً موصلاً إليه، والسبب ما يتوصل به إلى المقصود من علم أو قدرة أو آلة.
((فَأَتْبَعَ سَبَبًا))، وفي قراءة: (فاتبع سبباً)، ويتعديان لمفعول واحد، وقيل: (أتبع) بالقطع يتعدى لاثنين، والتقدير فأتبع سبباً سبباً آخر، أو فأتبع أمره سبباً؛ كقوله تعالى: ﴿وَأَتْبَعْنَاهُمْ فِي هَذِهِ الدُّنْيَا لَعْنَةً﴾ [القصص: ٤٢].
وقال أبو عبيدة: (اتبع) في السير، و (أتبع) معناه: اللحاق، كقوله تعالى: ﴿فَأَتْبَعَهُ شِهَابٌ ثَاقِبٌ﴾ [الصافات: ١٠]، أي: لحق به، وقال يونس: (أتبع) بالجر: الحثث في الطلب.
(واتبع) مجرد الانتقال.
والفاء في قوله: (فأتبع) فاء الفصيحة، أي: فأراد بلوغ المغرب فأتبع سبباً يوصله عليه.
وقوله تعالى: ((حتى إذا بلغ مغرب الشمس))، أي: أقصى ما يسلك من الأرض من ناحية المغرب، يعني: أنه مشى إلى أقصى ما تصل إليه اليابسة من جهة المغرب.
((وجدها تغرب في عين حمئة))، أي: ذات حمأة، وهو الطين الأسود، وقرئ: (حامية) أي: حارة، وقد تكون جامعة للوصفين.
وقوله: ((وجدها)) بمعنى رأى، ((ووجد عندها قوماً)) أي: أمة.
ثم أشار تعالى إلى أنه مكنه منهم، وأظهره عليهم، وحكمه فيهم، وجعل له الخيرة في شأنهم بقوله: ((قلنا يا ذا القرنين إما أن تعذب)) يعني: إما أن تعذبهم بالقتل وغيره، ((وإما أن تتخذ فيهم حسناً)) بالعفو.
ثم بين اتصاف ذي القرنين بصفتي العدل والإنصاف ليحتذى حذوه ويقتدى به، بقوله عز وجل: ((قَالَ أَمَّا مَنْ ظَلَمَ فَسَوْفَ نُعَذِّبُهُ ثُمَّ يُرَدُّ إِلَى رَبِّهِ فَيُعَذِّبُهُ عَذَابًا نُكْرًا)).
وقوله تعالى: ((حتى إذا بلغ مغرب الشمس وجدها تغرب في عين حمئة)) يقول الشنقيطي: قرأه نافع وابن كثير وأبو عمرو وحفص عن عاصم (حمئة) بلا ألف بعد الحاء وبهمزة مفتوحة بعد الميم المكسورة، وقرأه ابن عامر وحمزة والكسائي وشعبة عن عاصم (حامية) بألف بعد الحاء وياء مفتوحة بعد الميم المكسورة على صيغة اسم الفاعل.
فعلى القراءة الأولى فمعنى (حمئة): ذات حمأة وهي الطين الأسود، ويدل لهذا التفسير قوله تعالى: ﴿وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإِنْسَانَ مِنْ صَلْصَالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ﴾ [الحجر: ٢٦]، والحمأ هو الطين، كما تقدم، ومن هذا المعنى قول تبع الحميري فيما يؤثر عنه يمدح ذا القرنين: بلغ المشارق والمغارب يبتغي أسباب أمر من حكيم مرشد فرأى مغيب الشمس عند غروبها في عين ذي خلب وثأط حرمد والخلب: هو الطين، والثأط: الحمأة، والحرمد: الأسود.
وعلى قراءة: (حامية): بصيغة اسم الفاعل فالمعنى أنها عين حارة، وذلك لمجاورتها وهج الشمس عند غروبها، وملاقاتها الشعاع بلا حائل، ولا منافاة بين القراءتين.
قال ابن كثير رحمه الله تعالى في تفسيره: ((وجدها تغرب في عين حمئة)) أي: رأى الشمس في ناظره تغرب في البحر المحيط.
وبعض الناس وبالذات قاصري الفهم من المستشرقين، يقولون: إن القرآن يصور للمسلمين أن الشمس تغطس في العين الحمئة هذه أو في البحر، فيرد ذلك ابن كثير بقوله: (في ناظره).
ثم قال: وهذا شأن كل من انتهى إلى ساحله يراها كأنها تغرب فيه.
ومقتضى كلامه أن المراد بالعين في الآية البحر المحيط، وهو ذو طين أسود.
والعين: تطلق في اللغة على ينبوع الماء، والينبوع: الماء الكثير، فاسم العين يصدق على البحر لغة، والمقصود بالبحر المحيط المحيط الأطلسي؛ لأنه آخر شيء من جهة المغرب.
قال: وكون من على شاطئ المحيط الغربي يرى الشمس في نظر عينه تسقط في البحر أمر معروف، وعلى هذا التفسير فلا إشكال في الآية، والعلم عند الله تعالى.
قوله تعالى: ((حَتَّى إِذَا بَلَغَ مَغْرِبَ الشَّمْسِ وَجَدَهَا تَغْرُبُ فِي عَيْنٍ حَمِئَةٍ وَوَجَدَ عِنْدَهَا قَوْمًا قُلْنَا يَا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِمَّا أَنْ تُعَذِّبَ وَإِمَّا أَنْ تَتَّخِذَ فِيهِمْ حُسْنًا)).
قال: أما من ظلم، بالبغي والفساد في الأرض بالشرك والضلال والإضلال فسوف نعذبه، ((ثم يرد إلى ربه))، في الآخرة، ((فيعذبه عذاباً نكراً))، أي: منكراً لم يعهد مثله.
((وَأَمَّا مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَهُ جَزَاءً الْحُسْنَى وَسَنَقُولُ لَهُ مِنْ أَمْرِنَا يُسْرًا)).
قيل: إن قوله تعالى: ((وأما من آمن وعمل صالحاً فله جزاء الحسنى)) هي الجنة في الآخرة، أما في الدنيا: ((وسنقول له من أمرنا يسراً)) وهذا في حق المؤمن؛ لأن المؤمن يعمل للآخرة، قدم ويوقن بثوابها الأخروي الذي يسعى إليه بحق.
أما في الكافر فقال: ((أما من ظلم فسوف نعذبه ثم يرد))، رغماً عنه إلى ما كان ينكره أو يكذب به من الآخرة، ((ثم يرد إلى ربه فيعذبه عذاباً نكراً)).
وقيل: ((فله جزاء))، أي: فله في الدارين ((جزاء الحسنى))، أو قيل: الخصلة الحسنى، أو: ثناؤه الحسنى جزاء، أي: مجزياً بها.