خلاف العلماء في نبوة ذي القرنين
التنبيه الرابع: قال الرازي: اختلفوا في ذي القرنين، هل كان من الأنبياء أم لا؟ منهم من قال: إنه كان نبياً، واحتج عليه بوجوه: الأول: قوله تعالى: ((إنا مكنا له في الأرض))، والأولى حمله على التمكين في الدين، والتمكين الكامل في الدين هو النبوة.
الثاني: قوله تعالى: ((وآتيناه من كل شي سبباً)) ومن جملة الأشياء النبوة.
الثالث: قوله تعالى: ((قُلْنَا يَا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِمَّا أَنْ تُعَذِّبَ وَإِمَّا أَنْ تَتَّخِذَ فِيهِمْ حُسْنًا))، والذي يتكلم الله معه لابد أن يكون نبياً.
ومنهم من قال: إنه كان عبداً صالحاً وما كان نبياً.
انتهى كلام الرازي.
ثم قال الرازي بعد: يدل قوله تعالى: ((قلنا يا ذا القرنين)) على أنه تعالى تكلم معه من غير واسطة، وذلك يدل على أنه كان نبياً، وحمل هذا اللفظ على أن المراد أنه خاطبه على ألسنة بعض الأنبياء عدول عن الظاهر.
ثم يعلق القاسمي: ولا يخفى ضعف الاستدلال بهذه الأدلة على نبوته.
يعني: التمسك بمثل هذه العمومات لا يكفي في إثبات النبوة؛ لأن الأدلة في عامتها يضعف وجه دلالتها على كونه كان نبياً؛ لأن قوله: ((إنا مكنا له في الأرض)) ما المانع من أن يكون المقصود به الملك والتمكين الدنيوي والصفوة وتوسع النفوذ والسلطان؟ وليس شرطاً أن يكون التمكين بالنبوة، والظاهر أنه كان ملكاً عظيماً.
ثانياً: قوله: ((وآتيناه من كل شيء سبباً)) لا تستلزم أن يؤتى النبوة أيضاً، باعتبارها سبباً من الأسباب، كما في قوله تعالى في شأن بلقيس: ﴿وَأُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ﴾ [النمل: ٢٣]، وهي إنما أوتيت من كل شيء مما يؤتاه الملوك، كذلك هذا آتاه الله من كل شيء سبباً ولا يشترط أن تشتمل على معنى النبوة.
يقول القاسمي: ولا يخفى ضعف الاستدلال بهذه الأدلة على نبوته؛ لأن مقام إثباتها يحتاج إلى تنصيص وتخصيص، وأما الاعتماد على العمومات لاستفادة فمثل ذلك فغير مقنع، وأما قوله تعالى: ((قلنا يا ذا القرنين))، فقد قلنا إنه كناية عن تمكينه تعالى له منهم، لا أنه قول مشافهة، وإلا لو كان ذلك لكان مخيراً منه تعالى وملقناً ما يفعل بهم، فأنى يسوغ له نقضه باجتهاد آخر.
يقصد القاسمي: أن قوله تعالى: ﴿قُلْنَا يَا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِمَّا أَنْ تُعَذِّبَ وَإِمَّا أَنْ تَتَّخِذَ فِيهِمْ حُسْنًا﴾ [الكهف: ٨٦]، كناية عن تمكينه له تعالى من هؤلاء القوم، لا أنه قال له ذلك مشافهة، وإلا لو كان ذلك لكان مخيراً منه تعالى، كأن الله هو الذي خيره ولقنه ما يفعل بهم، فأنى يسوغ له نقضه باجتهاد آخر، ﴿إِمَّا أَنْ تُعَذِّبَ وَإِمَّا أَنْ تَتَّخِذَ فِيهِمْ حُسْنًا﴾ [الكهف: ٨٦] فإذا كان الله مكنه منهم، وكان من قبل قد قال له: أنت مخير أن تفعل هذا أو ذاك، فكيف يسوغ له بعد ذلك أن يجتهد اجتهاداً ينقض هذا الحكم؟ قال: ولا يقال: إن الأصل في الإطلاق الحقيقة، لأنا نقول به ما لم يمنع منه مانع وللتنزيل الكريم أسلوب خاص عرفه من أمعن النظر في بديع بيانه.
نعم.
لو كان مراد القائل بنبوته: إنه من الملهمين، ذهاباً في النبوة إلى المعنى الأعم من الإيحاء بشرع لكان قريباً، فتكون نبوته من القسم الثاني، وهو الإلهام الذي جاء في الحديث تسمية صاحبه محدثاً كما في البخاري قال عليه الصلام والسلام: (إنه قد كان فيما مضى قبلكم من الأمم محدثون، وإنه إن كان في أمتي هذه منهم فإنه عمر بن الخطاب رضي الله عنه)، وإطلاق النبوة عليه وإن كان محظوراً في الإسلام إلا أنه كان معروفاً قبله في العباد الأخيار.