تفسير قوله تعالى: (قال قد أوتيت سؤلك يا موسى ولقد مننا عليك مرة أخرى)
قال الله تعالى: ﴿قَالَ قَدْ أُوتِيتَ سُؤْلَكَ يَا مُوسَى﴾ [طه: ٣٦] أي: أجيب دعاؤك* ﴿وَلَقَدْ مَنَنَّا عَلَيْكَ مَرَّةً أُخْرَى﴾ [طه: ٣٧]، هذا كلام مستأنف مسوق لتقرير ما قبله، وزيادة توطين نفس موسى عليه السلام بالقبول، ولبيان أنه تعالى حيث أنعم عليه بتلك النعمة التامة من غير سابقة دعاء منه وطلب، فلأن ينعم عليه بمثلها وهو داع له أولى وأحرى.
يعني: ما مر من الآيات يبين الله سبحانه وتعالى لموسى أنه أنعم عليه بأعظم نعمة وهي نعمة النبوة والرسالة، ثم أنعم عليه بهذه المعجزات، وكأن الله سبحانه وتعالى يقول له: قد أنعمنا عليك هذه النعمة العظمى؛ نعمة الرسالة بدون طلب منك، وإنما ابتدأها الله سبحانه وتعالى في حقه من غير سابقة دعاء منه ولا طلب، فلأن ينعم عليه بمثلها وهو طالب له وداع أولى وأحرى.
﴿وَلَقَدْ مَنَنَّا عَلَيْكَ مَرَّةً أُخْرَى﴾ [طه: ٣٧]، فصدره هنا بالقسم: (ولقد مننا)، لكمال الاعتناء بذلك، (مرة أخرى) أي: في وقت آخر.
﴿إِذْ أَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّكَ مَا يُوحَى * أَنِ اقْذِفِيهِ فِي التَّابُوتِ فَاقْذِفِيهِ فِي الْيَمِّ فَلْيُلْقِهِ الْيَمُّ بِالسَّاحِلِ يَأْخُذْهُ عَدُوٌّ لِي وَعَدُوٌّ لَهُ وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِنِّي وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي﴾ [طه: ٣٨ - ٣٩] قوله: (إذ أوحينا إلى أمك) يعني: ألقينا بطريق الإلهام، والوحي إلى أم موسى لا يدل على أنها كانت نبية، وإنما هذا إلهام جعله الله في قلبها أو ألقاه في روعها، وليس وحياً كالوحي الذي ينزل على الأنبياء.
((أَنِ اقْذِفِيهِ فِي التَّابُوتِ)) يعني: الصندوق، ((فَاقْذِفِيهِ فِي الْيَمِّ)) (اليم) البحر، يعني: ألقيه واقذفيه متوكلة على الله عز وجل.
((فَلْيُلْقِهِ الْيَمُّ بِالسَّاحِلِ يَأْخُذْهُ عَدُوٌّ لِي))، لماذا هو عدو لله؟ بدعواه الألوهية، ((وَعَدُوٌّ لَهُ))، لدعوته إلى نبذ ما يدعي؛ وهو سوف يدعوه إلى نفس ما يدعيه من الألوهية وغير ذلك.
قال الزمخشري: لما كانت مشيئة الله تعالى وإرادته ألا تخطئ جرية ماء اليم الوصول به إلى الساحل وإلقائه إليه؛ سلك في ذلك سبيل المجاز، وجعل اليم كأنه ذو تمييز أمر بذلك ليطيع الأمر ويمتثل رسمه، فقيل: ﴿فَلْيُلْقِهِ الْيَمُّ بِالسَّاحِلِ﴾ [طه: ٣٩] أي: على سبيل الاستعارة بالكناية بتشبيه اليم بمأمور منقاد وإثبات الأمر تسهيل.
وهذا الكلام في الحقيقة فيه نظر، من أين لنا أن هذا الأمر مجاز؟ والله قادر أن يخلق في اليم إدراكاً بحيث يمتثل أمر الله سبحانه وتعالى.
(فليلقه اليم بالساحل) أمر الله اليم أن يلقيه في الساحل، ((يَأْخُذْهُ عَدُوٌّ لِي وَعَدُوٌّ لَهُ وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِنِّي)) أي: محبة واسعة مني زرعتها في قلب من يراك، وهذه من خصائص موسى عليه السلام، فما كان أحد يراه إلا وأحبه، ولذلك أحبه فرعون بمجرد أن رآه، وقالت زوجته: ﴿قُرَّةُ عَيْنٍ لِي وَلَكَ لا تَقْتُلُوهُ﴾ [القصص: ٩].
((وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي))، أي: ولتربى بيد العدو على رغد بالحفظ والعناية؛ لأن المصون يجعل بمرأى ممن يكفله، (على) بمعنى الباء، لأنه في الأصل بمعنى: بمرأى مني.
﴿إِذْ تَمْشِي أُخْتُكَ فَتَقُولُ هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى مَنْ يَكْفُلُهُ﴾ [طه: ٤٠]، يقول الشنقيطي رحمه الله تعالى في تفسير هذه الآية: ذكر جل وعلا في هذه الآية الكريمة: أنه منّ على موسى مرة أخرى قبل منه عليه بالرسالة ورسالة أخيه معه؛ وذلك بإنجائه من فرعون وهو صغير.
ومعنى الوحي إلى أمه: أي: ألهمها وقذف في قلبها، وقال بعضهم: هي رؤيا منام، وقال بعضهم: أوحى إليها ذلك بواسطة ملك كلمها بذلك، ولا يلزم من الإيحاء في أمر خاص أن يكون الموحى إليه نبياً لمجرد موقف عام أوحى الله إليه، وليس وحياً كالذي ينزل على الأنبياء، فليست الآية دليلاً لـ ابن حزم وحيث ذهب إلى جواز نبوة المرأة؛ لأن المرأة لا تكون نبية.
(أن) مفسرة؛ لأن الإيحاء فيه معنى القول دون حروفه، والتعبير بكلمة (ما) الموصولة يدل على تعظيم شأن الأمر المذكور، كقوله تعالى: ﴿فَغَشِيَهُمْ مِنَ الْيَمِّ مَا غَشِيَهُمْ﴾ [طه: ٧٨] يعني: شيء عظيم، وقوله: ﴿فَأَوْحَى إِلَى عَبْدِهِ مَا أَوْحَى﴾ [النجم: ١٠]، للدلالة على عظم شأن الموحى به.
((أَنِ اقْذِفِيهِ فِي التَّابُوتِ)) أي: الصندوق، ﴿فَاقْذِفِيهِ فِي الْيَمِّ﴾ [طه: ٤٠] البحر، ((فَلْيُلْقِهِ الْيَمُّ بِالسَّاحِلِ))، شاطئ البحر، والبحر المذكور هو نيل مصر، والقذف: الإلقاء والوضع، ومنه قوله تعالى: ﴿وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ﴾ [الأحزاب: ٢٦] يعني: ألقى ووضع، ومعنى: (فاقذفيه في التابوت) أي: ضعيه في الصندوق، والضمير في قوله: (أن اقذفيه) راجع إلى موسى بلا خلاف، وأما الضمير في قوله: (فاقذفيه في اليم) فهو راجع إلى التابوت أو موسى.
يقول الشنقيطي رحمه الله تعالى: والصواب رجوعه إلى موسى وهو داخل التابوت؛ لأن تفريق الضمائر غير حسن، فالأصل أن الضمائر كلها على نسق واحد، كلها تعود إلى موسى، خلافاً لقول من قال: إن الهاء في: (اقذفيه في اليم) إلى التابوت، والصواب رجوعه إلى موسى وهو داخل التابوت، (فليلقه اليم) أي: موسى عليه السلام في الساحل.
((يَأْخُذْهُ عَدُوٌّ لِي وَعَدُوٌّ لَهُ)) وهو فرعون، وصيغة الأمر معناها الخبر.
قال أبو حيان في البحر المحيط: (فليلقه) أمر معناه: خبر، وجاء بصيغة الأمر مبالغة، إذ الأمر أقطع الأفعال وأوجبها.
الوجه الثاني: أن صيغة الأمر في قوله: (فليلقه) أريد بها الأمر الكوني القدري، كقوله تعالى: ﴿إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ﴾ [يس: ٨٢]، فالبحر لا بد أن يلقيه بالساحل؛ لأن الله أمره بذلك كوناً وقدراً.
وما ذكره جل وعلا في هذه الآيات أوضحه في غير هذا الموضع؛ كقوله في سورة القصص: ﴿وَأَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّ مُوسَى أَنْ أَرْضِعِيهِ فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ وَلا تَخَافِي وَلا تَحْزَنِي إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجَاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ﴾ [القصص: ٧]، ولا شك أن هذه الآية من أعظم آيات البلاغة في القرآن الكريم.
﴿فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَنًا﴾ [القصص: ٨] (ليكون)، هذه لام العاقبة، وقد بين تعالى شدة جزع أمه عليه لما ألقته في البحر، وألقاه اليم بالساحل، وأخذه عدوه فرعون وذلك في قوله تعالى: ﴿وَأَصْبَحَ فُؤَادُ أُمِّ مُوسَى فَارِغًا إِنْ كَادَتْ لَتُبْدِي بِهِ لَوْلا أَنْ رَبَطْنَا عَلَى قَلْبِهَا لِتَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ﴾ [القصص: ١٠]، والمعنى: ((وَأَصْبَحَ فُؤَادُ أُمِّ مُوسَى فَارِغًا)) إلا من محبة موسى؛ ولذلك يقولون في تعريف العشق: حركة قلب فارغ، وقوله هنا: ((وَأَصْبَحَ فُؤَادُ أُمِّ مُوسَى فَارِغًا)) أي: من كل شيء إلا من محبة موسى عليه السلام، ومن شدة وجد قلبها من محبته والشفقة عليه كادت أن تنطق بهذا السر: (إن كادت لتبدي به)، من شدة وجدها، ﴿إِنْ كَادَتْ لَتُبْدِي بِهِ لَوْلا أَنْ رَبَطْنَا عَلَى قَلْبِهَا لِتَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ﴾ [القصص: ١٠].
وإعراب: (يأخذه) جواب الطلب مجزوم؛ لأنه في جواب الطلب: (فليلقه اليم بالساحل)؛ لأننا قلنا: إن معناه الأمر الكوني.
أما إذا قلنا إن: (فليلقه اليم بالساحل) بمعنى الخبر فالجزم مراعاة لصيغة اللفظ وليس لمعنى، والصيغة تنافي الأمر، والعلم عند الله تعالى.
يقول الشنقيطي رحمه الله تعالى: وذكر في قصتها: أنها صنعت له التابوت وطلته بالقار وهو الزفت؛ لئلا يتسرب منه الماء إلى موسى في داخل التابوت، وحشته قطناً محلوجاً، وقيل: إن التابوت المذكور من شجر الجميّز، وأن الذي نجره لها هو مؤمن آل فرعون، واسمه حزقيل، وكانت عقدت في التابوت حبلاً، فإذا خافت على موسى من عيون فرعون أرسلته في البحر وأمسكت طرف الحبل عندها، فإذا أمنت جذبته إليها بالحبل، فذهبت مرة لتشد الحبل في منزلها فانفلت منها، وذهب البحر بالتابوت الذي فيه موسى؛ فحصل لها بذلك من الغم والهم ما ذكره الله تعالى في قوله عز وجل: ﴿وَأَصْبَحَ فُؤَادُ أُمِّ مُوسَى فَارِغًا إِنْ كَادَتْ لَتُبْدِي بِهِ لَوْلا أَنْ رَبَطْنَا عَلَى قَلْبِهَا لِتَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ﴾ [القصص: ١٠].
وما ذكره جل وعلا في هذه الآية الكريمة من مننه المتتابعة على موسى عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام حيث قال تعالى: ﴿وَلَقَدْ مَنَنَّا عَلَيْكَ مَرَّةً أُخْرَى﴾ [طه: ٣٧]، أشار إلى ما يشبهه بقوله تعالى: ﴿وَلَقَدْ مَنَنَّا عَلَى مُوسَى وَهَارُونَ﴾ [الصافات: ١١٤].
قوله: (وألقيت عليك محبة مني)، قال الشنقيطي رحمه الله تعالى: من آثار هذه المحبة التي ألقاها الله على عبده ونبيه موسى عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام: ما ذكره جل وعلا في القصص بقوله: ﴿وَقَالَتِ امْرَأَةُ فِرْعَوْنَ قُرَّةُ عَيْنٍ لِي وَلَكَ لا تَقْتُلُوهُ﴾ [القصص: ٩]، قال ابن عباس: (وألقيت عليك محبة مني) أي: أحبه الله وحببه إلى خلقه، وقال ابن عطية: جعل عليه مسحة من جمال، لا يكاد يصدر عنه من رآه، وقال قتادة: كانت في عيني موسى ملاحة ما رآه أحد إلا أحبه وعشقه، نقله القرطبي.


الصفحة التالية
Icon