تفسير قوله تعالى: (ما أنزلنا عليك القرآن لتشقى)
قال تعالى: ﴿مَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقَى﴾ [طه: ٢]، يعني: لتسعد بترك تأسفك عليهم وعلى كفرهم، وتحسرك على أن يؤمنوا، والشقاء هنا: بمعنى التعب، ومنه المثل: أشقى من رائض مهر.
﴿إِلَّا تَذْكِرَةً لِمَنْ يَخْشَى﴾ [طه: ٣]، أي: تذكيراً له.
أي: ما أنزلنا عليك القرآن لتتعب بتبليغه، ولكن أنزلنا القرآن تذكرة لمن في قلبه خشية ورقة يتأثر بالإنذار، والقصد: أنه ما عليك إلا أن تبلغ وتذكر، هذا هو واجبك، ولم يكتب عليك أن يؤمنوا لا محالة، وليس بمسئوليتك قيام القلوب بهذا الحق، لكن عليك بيان هذا الحق والتبليغ.
وقد جرت السنة الإلهية في خطاب الرسول ﷺ في مواضع من التنزيل: أن ينهاه عن الحزن عليهم، وضيق الصدر بهم، كقوله تعالى: ﴿فَلا يَكُنْ فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ مِنْهُ﴾ [الأعراف: ٢]، وقوله: ﴿فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ عَلَى آثَارِهِمْ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهَذَا الْحَدِيثِ أَسَفًا﴾ [الكهف: ٦]، وهذا يصور مدى سخط النبي ﷺ على قومه، فصوره بمن يفارق أحب الناس إليه، ثم هم ينصرفون عنه ويودعوه، وإذا به يظل يلاحقهم ويمشي خلفهم أسفاً على فراقهم وذهابهم عنه، حتى كاد أن يقتل نفسه من الغم والحزن والحسرة والتأسف لفراقهم؛ فلذلك يقول الله تعالى هنا: ﴿فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ﴾ [الكهف: ٦] يعني: لعلك مهلك نفسك، (على آثارهم) لأنه يحرص على أن يهتدوا، ﴿إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهَذَا الْحَدِيثِ أَسَفًا﴾ [الكهف: ٦]، كأن الله سبحانه وتعالى يقول له: ترفق بنفسك فإنك تكاد أن تقتل نفسك، وتكاد أن تموت من شدة الشفقة عليهم؛ صلى الله عليه وسلم.
ويقول الله تعالى: ﴿وَلا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ﴾ [آل عمران: ١٧٦]، وهذه الآية من هذا الباب أيضاً مثل: ﴿مَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقَى﴾ [طه: ٢] أي: هون عليك، ما أنزلنا عليك القرآن حتى تشقى وتتألم وتحزن هذا الحزن لنفورهم من الإيمان، ولكن بلغ وأنذر فقط، وفي ذلك كله من تكريم الرسول ﷺ وحسن العناية به والرأفة ما لا يخفى.
يقول العلامة الشنقيطي رحمه الله تعالى في تفسيرها: (ما أنزلنا عليك القرآن لتشقى): فيها وجهان من التفسير، وكلاهما يشهد له القرآن: الأول: أن معنى: ﴿مَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقَى﴾ [طه: ٢] أي: لتتعب التعب الشديد بقصد تأسفك عليهم وعلى كفرهم، وتحسرك على أن يؤمنوا، وهذا الوجه جاءت بنحوه آيات كثيرة، كقوله: ﴿فَلا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَاتٍ﴾ [فاطر: ٨]، وقوله تعالى: ﴿فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ عَلَى آثَارِهِمْ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهَذَا الْحَدِيثِ أَسَفًا﴾ [الكهف: ٦]، وقوله: ﴿لَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ أَلَّا يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ﴾ [الشعراء: ٣].
الوجه الثاني: أنه ﷺ صلى بالليل حتى تورمت قدماه، فأنزل الله تعالى: ﴿مَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقَى﴾ [طه: ٢] أي: لتنهك نفسك بالعبادة؛ وتذيقها المشقة الفادحة، وما بعثناك إلا بالحنيفية السمحاء، وهذا الوجه تدل له ظواهر آيات من كتاب الله، كقوله تعالى: ﴿وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ﴾ [الحج: ٧٨]، وقوله: ﴿يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ﴾ [البقرة: ١٨٥]، والعبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب، يعني: إن كان المنطوق إرادة نفي الشقاء بنزول القرآن؛ فالمفهوم إرادة السعادة؛ فلذلك قال الشنقيطي: ويفهم من قوله: (لتشقى)، أنه أنزله عليه ليسعد ﷺ كما يدلنا على ذلك الحديث الصحيح من قول النبي صلى الله عليه وسلم: (من يرد الله به خيراً يفقهه في الدين).
وقد روى الطبراني، عن ثعلبة بن الحسن رضي الله عنه أن النبي ﷺ قال: (إن الله يقول للعلماء يوم القيامة: إني لم أجعل علمي وحكمتي فيكم إلا وأنا أريد أن أغفر لكم على ما كان منكم ولا أبالي)، قال ابن كثير: إسناده جيد.
فيكون معنى الآيات على هذا القول الأخير مثل قوله تعالى: ﴿فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنْهُ﴾ [المزمل: ٢٠]، حسب الاستطاعة.
وأصل الشقاء في لغة العرب: العناء والتعب، ومنه قول أبي الطيب: ذو العقل يبقى في النعيم بعقله وأخو الجهالة في الشقاوة يلعب فالشقاوة هنا بمعنى: العناء والتعب، ومنه قوله تعالى: ﴿فَلا يُخْرِجَنَّكُمَا مِنَ الْجَنَّةِ فَتَشْقَى﴾ [طه: ١١٧]، أريد بذلك العناء والتعب في دار الدنيا.
﴿إِلَّا تَذْكِرَةً لِمَنْ يَخْشَى﴾ [طه: ٣]، (تذكرة) أظهر الأقوال فيه أنه مفعول لأجله، أي: ما أنزلنا عليك القرآن (إلا تذكرة) أي: لأجل التذكرة لمن يخشى الله ويخاف عقابه، والتذكرة: هي الموعظة التي تلين القلوب، فتمتثل أمر الله وتجتنب نهيه، وخص بالتذكرة من يخشى دون غيرهم؛ لأن هؤلاء الذين يخشون الله هم الذين ينتفعون بالتذكرة، كقوله تعالى: ﴿فَذَكِّرْ بِالْقُرْآنِ مَنْ يَخَافُ وَعِيدِ﴾ [ق: ٤٥]، وقوله تعالى: ﴿إِنَّمَا تُنذِرُ مَنِ اتَّبَعَ الذِّكْرَ وَخَشِيَ الرَّحْمَنَ بِالْغَيْبِ﴾ [يس: ١١]، وقوله: ﴿إِنَّمَا أَنْتَ مُنذِرُ مَنْ يَخْشَاهَا﴾ [النازعات: ٤٥]، فالتخصيص المذكور بقوله: (لمن يخشى) في الآيات فيمن تنفع فيهم الذكرى، كما قال تبارك وتعالى: ﴿وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنفَعُ الْمُؤْمِنِينَ﴾ [الذاريات: ٥٥]، وقال: ﴿فَذَكِّرْ إِنْ نَفَعَتِ الذِّكْرَى﴾ [الأعلى: ٩]، فهي تنفع المؤمن، ولذلك قال هنا: ((إِلَّا تَذْكِرَةً لِمَنْ يَخْشَى))؛ لأن هؤلاء هم الذين ينتفعون بالتذكرة دون غيرهم.
أما ما ذكره تعالى هنا من أنه ما أنزل القرآن إلا للتذكرة، فقد بينه في غير هذا الموضوع، كما في قوله عز وجل: ﴿إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعَالَمِينَ * لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ﴾ [التكوير: ٢٧ - ٢٨]، وقوله تعالى: ﴿قُلْ لا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرَى لِلْعَالَمِينَ﴾ [الأنعام: ٩٠]، إلى غير ذلك من الآيات.