تفسير قوله تعالى: (وإن تجهر بالقول فإنه يعلم السر وأخفى)
قال تعالى: ﴿وَإِنْ تَجْهَرْ بِالْقَوْلِ فَإِنَّهُ يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفَى﴾ [طه: ٧]، بيان لكمال لطفه، أي: علمه نافذ في الكل؛ فيعلم ظواهرها وبواطنها والسر وسر السر: ﴿فَإِنَّهُ يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفَى﴾ [طه: ٧] والأخفى من السر: سر السر، فكذلك إن تجهر أو تخفت فيعلمه بجهرٍ وخفتٍ.
﴿اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ لَهُ الأَسْمَاءُ الْحُسْنَى﴾ [طه: ٨]، أي: ذلك المنزل الموصوف بهذه الصفات هو الله سبحانه وتعالى، ((لَهُ الأَسْمَاءُ الْحُسْنَى)) أي: الفضلى؛ لدلالتها على معاني التقديس والتمجيد والتعظيم والربوبية والأفعال التي هي النهاية في الحسن.
وقوله تعالى: ((وَإِنْ تَجْهَرْ بِالْقَوْلِ فَإِنَّهُ يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفَى)) المراد بقوله في هذه الآية: (وأخفى) أوجه معروفة كلها حق ويشهد لها القرآن.
يقول الشنقيطي: قال بعض أهل العلم: (وإن تجهر بالقول فإنه يعلم السر) أي: ما قاله العبد سراً، (وأخفى) أي: ويعلم ما هو أخفى من السر، وهو ما توسوس به نفسه.
يعني: السر هو ما يقوله العبد في الخفاء، أما ما هو أخفى من السر: فهو ما توسوس به نفسه، يعني مجرد ما يحدث الإنسان نفسه بشيء دون أن ينطق به فإن الله سبحانه وتعالى يعلمه، كما قال تعالى: ﴿وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإِنْسَانَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ﴾ [ق: ١٦].
قول آخر: (فإنه يعلم السر)، السر: ما توسوس به نفسه، (وأخفى) ما هو أخفى من ذلك، وهو ما علم الله أن الإنسان سيفعله قبل أن يعلم الإنسان أنه فاعله، ويعلم ما سيكون في المستقبل من أفعال هذا الإنسان، كما قال تعالى: ﴿وَلَهُمْ أَعْمَالٌ مِنْ دُونِ ذَلِكَ هُمْ لَهَا عَامِلُونَ﴾ [المؤمنون: ٦٣]، وكما قال تعالى: ﴿هُوَ أَعْلَمُ بِكُمْ إِذْ أَنشَأَكُمْ مِنَ الأَرْضِ وَإِذْ أَنْتُمْ أَجِنَّةٌ فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ فَلا تُزَكُّوا أَنفُسَكُمْ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقَى﴾ [النجم: ٣٢]، إن الله يعلم ما يسره الإنسان اليوم وما سيسره غداً؛ لأن ما يسره غداً هو أخفى بلا شك من السر، والعبد لا يعلم ما في غد، كما قال زهير في معلقته: وأعلم علم اليوم والأمس قبله ولكنني عن علم ما في غد عمي وقوله تعالى في هذه الآية الكريمة: (وأخفى) صيغة تفضيل، يعني: يعلم ويعلم ما هو أخفى من السر.
وهناك قول ظاهر السقوط، وهو الزعم بأن (أخفى) فعل ماض: ﴿وَإِنْ تَجْهَرْ بِالْقَوْلِ فَإِنَّهُ يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفَى﴾ [طه: ٧] يعني: أنه يعلم سر الخلق وأخفى عنهم ما يعلهه هو.
وهذا قول ظاهر السقوط، وإنما (أخفى) أفعل تفضيل، يعني: ما هو أخفى من السر.
فقوله تبارك تعالى: ﴿وَإِنْ تَجْهَرْ بِالْقَوْلِ فَإِنَّهُ يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفَى﴾ [طه: ٧] يعني: فلا حاجة لك إلى الجهر بالدعاء ونحوه، كما قال تعالى: ﴿ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً﴾ [الأعراف: ٥٥]، وقال تعالى: ﴿وَاذْكُرْ رَبَّكَ فِي نَفْسِكَ تَضَرُّعًا وَخِيفَةً وَدُونَ الْجَهْرِ مِنَ الْقَوْلِ﴾ [الأعراف: ٢٠٥]، والنبي ﷺ لما سمع أصحابه رفعوا أصواتهم بالتكبير قال صلى الله عليه وسلم: (أربعوا على أنفسكم، فإنكم لا تدعون أصماً ولا غائباً، إنما تدعون سميعاً بصيراً، إن الذي تدعون أقرب إلى أحدكم من عنق راحلته)، ولكن لابد في الدعاء من النطق وتحريك اللسان، لكن لا يرفع ولا يجهر بذلك.


الصفحة التالية
Icon