تفسير قوله تعالى: (ولقد أريناه آياتنا كلها فكذب وأبى)
ثم أشار تعالى إلى عتو فرعون وعناده، فقال عز وجل: ﴿وَلَقَدْ أَرَيْنَاهُ آيَاتِنَا كُلَّهَا فَكَذَّبَ وَأَبَى * قَالَ أَجِئْتَنَا لِتُخْرِجَنَا مِنْ أَرْضِنَا بِسِحْرِكَ يَا مُوسَى * فَلَنَأْتِيَنَّكَ بِسِحْرٍ مِثْلِهِ فَاجْعَلْ بَيْنَنَا وَبَيْنَكَ مَوْعِداً لا نُخْلِفُهُ نَحْنُ وَلا أَنْتَ مَكَاناً سُوًى﴾ [طه: ٥٦ - ٥٨].
((وَلَقَدْ أَرَيْنَاهُ آيَاتِنَا كُلَّهَا)) أي: من العصا، واليد، والطوفان، والجراد، والقمل، والضفادع، والدم، والسنين ((فَكَذَّبَ وَأَبَى)).
﴿قَالَ أَجِئْتَنَا لِتُخْرِجَنَا مِنْ أَرْضِنَا بِسِحْرِكَ يَا مُوسَى﴾ * ﴿فَلَنَأْتِيَنَّكَ بِسِحْرٍ مِثْلِهِ فَاجْعَلْ بَيْنَنَا وَبَيْنَكَ مَوْعِداً لا نُخْلِفُهُ نَحْنُ وَلا أَنْتَ مَكَاناً سُوًى﴾ أي: مستوياً واضحاً يجمعنا.
﴿قَالَ مَوْعِدُكُمْ يَوْمُ الزِّينَةِ﴾ [طه: ٥٩]، وهو يوم مشتهر عندهم باجتماع الناس فيه، ﴿وَأَنْ يُحْشَرَ النَّاسُ ضُحًى﴾ [طه: ٥٩] أي: في النهار لكي يكون الأمر مكشوفاً لا سترة فيه.
﴿فَتَوَلَّى فِرْعَوْنُ﴾ [طه: ٦٠] أي: انصرف عن المجلس، ﴿فَجَمَعَ كَيْدَهُ﴾ [طه: ٦٠] أي: ما يكيد به موسى من السحرة وأدواتهم، ثم أتى إلى الموعد ومعه من جمعه.
قوله تبارك وتعالى: ﴿قَالَ أَجِئْتَنَا لِتُخْرِجَنَا مِنْ أَرْضِنَا بِسِحْرِكَ يَا مُوسَى﴾، قال الشنقيطي: ذكر جل وعلا في هذه الآية الكريمة: أنه لما أرى فرعون آياته على يد نبيه موسى عليه وعلى نبينا الصلاة السلام قال: إن الآيات التي جاء بها موسى سحر، وأنه يريد بها إخراج فرعون وقومه من أرضهم.
أما دعواه هو وقومه أن موسى ساحر، فقد ذكر ذلك عز وجل في مواضع كثيرة من كتابه كقوله: ﴿فَلَمَّا جَاءَتْهُمْ آيَاتُنَا مُبْصِرَةً قَالُوا هَذَا سِحْرٌ مُبِينٌ﴾ [النمل: ١٣]، وقوله: ﴿فَلَمَّا جَاءَهُمْ الْحَقُّ مِنْ عِنْدِنَا قَالُوا إِنَّ هَذَا لَسِحْرٌ مُبِينٌ﴾ [يونس: ٧٦]، وقوله: ﴿إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ الَّذِي عَلَّمَكُمُ السِّحْرَ﴾ [طه: ٧١]، وقوله: ﴿وَقَالُوا يَا أَيُّهَا السَّاحِرُ ادْعُ لَنَا رَبَّكَ﴾ [الزخرف: ٤٩]، إلى غير ذلك من الآيات.
وأما ادعاؤهم أنه يريد إخراجهم من أرضهم بالسحر: فقد ذكره الله جل وعلا أيضاً في مواضع من كتابه، كقوله تعالى في هذه السورة: ((أَجِئْتَنَا لِتُخْرِجَنَا مِنْ أَرْضِنَا بِسِحْرِكَ يَا مُوسَى)) * ((فَلَنَأْتِيَنَّكَ بِسِحْرٍ مِثْلِهِ)) * ((فَلَنَأْتِيَنَّكَ بِسِحْرٍ مِثْلِهِ)) -واضح تماماً أن فرعون كانت أعمدة حكمه قائمة على السحر تماماً كما هو الآن أن إحدى الممالك قائمة على السحر، والله المستعان! - وقوله تعالى: ﴿قَالَ الْمَلأ مِنْ قَوْمِ فِرْعَوْنَ إِنَّ هَذَا لَسَاحِرٌ عَلِيمٌ * يُرِيدُ أَنْ يُخْرِجَكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ فَمَاذَا تَأْمُرُونَ﴾ [الأعراف: ١٠٩ - ١١٠]، وقوله في سورة يونس: ﴿قَالُوا أَجِئْتَنَا لِتَلْفِتَنَا عَمَّا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا وَتَكُونَ لَكُمَا الْكِبْرِيَاءُ فِي الأَرْضِ﴾ [يونس: ٧٨]، وقال سحرة فرعون: ﴿إِنْ هَذَانِ لَسَاحِرَانِ يُرِيدَانِ أَنْ يُخْرِجَاكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ بِسِحْرِهِمَا وَيَذْهَبَا بِطَرِيقَتِكُمُ الْمُثْلَى﴾ [طه: ٦٣].
قوله عز وجل: ((فَلَنَأْتِيَنَّكَ بِسِحْرٍ مِثْلِهِ)) ذكر جل وعلا في هذه الآية الكريمة: أن فرعون لعنه الله لما رأى آيات الله ومعجزاته الباهرة، وادعى أنها سحر؛ أقسم ليأتين موسى بسحر مثل آيات الله التي يزعم هو أنها سحر، وقد بين في غير هذا الموضع أن إتيانهم بالسحر وجمعهم السحرة كان عن اتفاق ملئهم على ذلك: ﴿قَالَ الْمَلأ مِنْ قَوْمِ فِرْعَوْنَ إِنَّ هَذَا لَسَاحِرٌ عَلِيمٌ * يُرِيدُ أَنْ يُخْرِجَكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ فَمَاذَا تَأْمُرُونَ * قَالُوا أَرْجِهِ وَأَخَاهُ وَأَرْسِلْ فِي الْمَدَائِنِ حَاشِرِينَ * يَأْتُوكَ بِكُلِّ سَاحِرٍ عَلِيمٍ﴾ [الأعراف: ١٠٩ - ١١٢]، فقوله عز وجل حاكياً عن فرعون: (فَمَاذَا تَأْمُرُونَ) في الموضعين يدل على أن قول فرعون: ((فَلَنَأْتِيَنَّكَ بِسِحْرٍ مِثْلِهِ)) وقع بعد مشاورة واتفاق الملأ منهم على ذلك.
((فَاجْعَلْ بَيْنَنَا وَبَيْنَكَ مَوْعِداً لا نُخْلِفُهُ نَحْنُ وَلا أَنْتَ))، والإخلاف عدم إنجاز الوعد، وقرر أن يكون مكان الاجتماع للمناظرة والمغالبة في السحر في زعمه ((مَكَاناً سُوًى))، وأصح الأقوال في قوله: ((سُوًى)) أن أصله من الاستواء؛ لأن المسافة من الوسط إلى الطرفين لا تفاوت فيها بل هي مستوية، وقوله: (سوى) فيه ثلاث لغات: الضم والكسر مع القصر وفتح السين مع المد.