تفسير قوله تعالى: (إنا قد أوحي إلينا أن العذاب على من كذب وتولى)
قال تعالى: ﴿إِنَّا قَدْ أُوحِيَ إِلَيْنَا أَنَّ الْعَذَابَ عَلَى مَنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى﴾ [طه: ٤٨]، والآيات في هذا كثيرة، كقوله: ﴿فَأَمَّا مَنْ طَغَى * وَآثَرَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا * فَإِنَّ الْجَحِيمَ هِيَ الْمَأْوَى﴾ [النازعات: ٣٧ - ٣٩]، وقوله تعالى: ﴿فَأَنْذَرْتُكُمْ نَارًا تَلَظَّى * لا يَصْلاهَا إِلَّا الأَشْقَى * الَّذِي كَذَّبَ وَتَوَلَّى﴾ [الليل: ١٤ - ١٦]، وقال تعالى: ﴿فَلا صَدَّقَ وَلا صَلَّى * وَلَكِنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى * ثُمَّ ذَهَبَ إِلَى أَهْلِهِ يَتَمَطَّى * أَوْلَى لَكَ فَأَوْلَى * ثُمَّ أَوْلَى لَكَ فَأَوْلَى﴾ [القيامة: ٣١ - ٣٥] إلى غير ذلك من الآيات.
قوله هنا: ﴿إِنَّا قَدْ أُوحِيَ إِلَيْنَا﴾ [طه: ٤٨] يعني: من ربنا، ﴿أَنَّ الْعَذَابَ عَلَى مَنْ كَذَّبَ﴾ [طه: ٤٨] أي: بآياته تعالى، ﴿وَتَوَلَّى﴾ [طه: ٤٨] أي: أعرض عنها.
وفيه التنصيص بالوعيد، ولم يصرح بحلول العذاب به، وهذا منتهى التلطف به بالوعيد، رغم أن فرعون أتى بهذه الأمور العظام لكن انظر إلى التلطف، لم يقل: إن العذاب سوف يحل عليك، وإنما قال: ﴿أَنَّ الْعَذَابَ عَلَى مَنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى﴾ [طه: ٤٨]، فلم يصرح بحلول العذاب به، وتلطف في إثبات الوعيد لمن كذب وتولى.
((قَالَ فَمَنْ رَبُّكُمَا يَا مُوسَى)) (قال) أي: فرعون، ﴿قَالَ رَبُّنَا الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى﴾ [طه: ٥٠] أي: منح كل شيء من الأنفس البشرية والأعضاء التي تطابق المنفعة المنوطة بها، فسواها بها وعدلها، ثم هداه بأن وهبه العقل الذي يميز به بين الخير والشر، وهذه الآية في معناها آية: ﴿وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا * فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا﴾ [الشمس: ٧ - ٨]، وآية: ﴿وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ﴾ [البلد: ١٠].
يقول الشنقيطي رحمه الله تعالى: ذكر جل وعلا في هذه الآية الكريمة: أن موسى وهارون لما بلغا فرعون ما أمرا بتبليغه إياه قال لهما: من ربكما الذي تزعمان أنه أرسلكما إلي.
زاعماً أنه لا يعرف الله سبحانه وتعالى، وأنه لا يعلم لهما إلهاً غير نفسه، كما قال في الآية الأخرى: ﴿مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرِي﴾ [القصص: ٣٨]، وقال: ﴿لَئِنِ اتَّخَذْتَ إِلَهًا غَيْرِي لَأَجْعَلَنَّكَ مِنَ الْمَسْجُونِينَ﴾ [الشعراء: ٢٩]، وقد دلت آيات القرآن الكريم على أن فرعون كاذب في دعواه أنه هو ربهم الأعلى، وأنه يعلم أنه عبد مربوب لرب العالمين، وقوله: ﴿مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرِي﴾ [القصص: ٣٨] كان على سبيل المكابرة، كذلك هنا في قوله: ﴿قَالَ فَمَنْ رَبُّكُمَا يَا مُوسَى﴾، على سبيل الاستنكاف أن يكون لهما إله غير نفسه، وقال أيضاً: ﴿لَئِنِ اتَّخَذْتَ إِلَهًا غَيْرِي لَأَجْعَلَنَّكَ مِنَ الْمَسْجُونِينَ﴾ [الشعراء: ٢٩].
إذاً: قوله: ((قَالَ فَمَنْ رَبُّكُمَا))، هذا تجاهل عارف؛ لأنه عبد مربوب لرب العالمين، ففرعون بطبعه يأكل ويشرب وينام ويمرض، والناس قد رأوه ولد من أب وأم، وتجري عليه كل الأعراض البشرية، فمن أين له أن يدعي هذه الألوهية؟! وقبل أن يولد أين كان؟! أين عقول هؤلاء القوم الذين استساغت عقولهم الضعيفة أو المريضة هذا القول؟! ((قَالَ فَمَنْ رَبُّكُمَا يَا مُوسَى))، هذا تجاهل عارف، وادعاء منه بالجهل وعدم معرفته بالله، وأنه لا يعرف الله؛ لأن الله سبحانه وتعالى قال في سورة الإسراء على لسان موسى أنه قال لفرعون: ﴿لَقَدْ عَلِمْتَ مَا أَنزَلَ هَؤُلاءِ إِلَّا رَبُّ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ بَصَائِرَ وَإِنِّي لَأَظُنُّكَ يَا فِرْعَوْنُ مَثْبُورًا﴾ [الإسراء: ١٠٢]، فموسى الصادق المصدوق عليه السلام يخبره بالحقيقة: (لقد علمت) يعني: أنت تعرف جيداً يا فرعون، (ما أنزل هؤلاء)، أي: هؤلاء الآيات، ((إِلَّا رَبُّ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ بَصَائِرَ وَإِنِّي لَأَظُنُّكَ يَا فِرْعَوْنُ مَثْبُورًا)).
كذلك أيضاً قال تبارك وتعالى في سورة النمل: ((فَلَمَّا جَاءَتْهُمْ)) أي: فرعون وقومه، ﴿آيَاتُنَا مُبْصِرَةً قَالُوا هَذَا سِحْرٌ مُبِينٌ * وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا﴾ [النمل: ١٣ - ١٤]، رغم أنهم كانوا على يقين أن هذا من عند الله، لكنه الجحود، وادعاء الجهل والنكران بعد العلم: ﴿وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا﴾ [النمل: ١٤].
وسؤال فرعون عن رب موسى وجواب موسى له جاء موضحاً في سورة الشعراء بأبسط مما هنا، وذلك في قوله: ﴿قَالَ فِرْعَوْنُ وَمَا رَبُّ الْعَالَمِينَ * قَالَ رَبُّ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا إنْ كُنتُمْ مُوقِنِينَ﴾ [الشعراء: ٢٣ - ٢٤]، انظروا للحوار، فرعون يقول: ﴿وَمَا رَبُّ الْعَالَمِينَ * قَالَ رَبُّ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا إنْ كُنتُمْ مُوقِنِينَ * قَالَ لِمَنْ حَوْلَهُ أَلا تَسْتَمِعُونَ﴾ [الشعراء: ٢٣ - ٢٥]، يتعجب من جواب موسى: ﴿قَالَ رَبُّكُمْ وَرَبُّ آبَائِكُمُ الأَوَّلِينَ * قَالَ إِنَّ رَسُولَكُمُ الَّذِي أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ لَمَجْنُونٌ * قَالَ رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَمَا بَيْنَهُمَا إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ * قَالَ لَئِنِ اتَّخَذْتَ إِلَهًا غَيْرِي﴾ [الشعراء: ٢٦ - ٢٩]، انظر للفرق بين الحجة وبين الإقناع بالسطوة والسلطة: ﴿قَالَ لَئِنِ اتَّخَذْتَ إِلَهًا غَيْرِي لَأَجْعَلَنَّكَ مِنَ الْمَسْجُونِينَ * قَالَ أَوَلَوْ جِئْتُكَ بِشَيْءٍ مُبِينٍ * قَالَ فَأْتِ بِهِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ * فَأَلْقَى عَصَاهُ فَإِذَا هِيَ ثُعْبَانٌ مُبِينٌ﴾ [الشعراء: ٢٩ - ٣٢].


الصفحة التالية
Icon