تفسير قوله تعالى: (فما بال القرون الأولى)
قال تعالى: ﴿قَالَ فَمَا بَالُ الْقُرُونِ الأُولَى﴾ [طه: ٥١].
قال فرعون: ((فَمَا بَالُ الْقُرُونِ الأُولَى))؟ يعني: ما حال القرون السالفة؟ وما جرى عليهم؟ لنا استفسار عن قوى فرعون، فقد كان في قمة الغباء، ولديه عقلية ضعيفة كما هو واضح من هذه الآيات، وكان يقول: ﴿أَمْ أَنَا خَيْرٌ مِنْ هَذَا الَّذِي هُوَ مَهِينٌ وَلا يَكَادُ يُبِينُ﴾ [الزخرف: ٥٢]، يرمي موسى بأنه لا يعرف الفصاحة، ثم: ﴿وَنَادَى فِرْعَوْنُ فِي قَوْمِهِ قَالَ يَا قَوْمِ أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ﴾ [الزخرف: ٥١] هل هذه هي مؤهلات الحجة والعلم، ﴿أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وَهَذِهِ الأَنْهَارُ تَجْرِي مِنْ تَحْتِي﴾ [الزخرف: ٥١]، ولكن لما أخذه الله جعل الماء يجري من فوقه وأغرقه بعد ذلك! وانظر إلى المناظرة التي ذكرها الله في سورة الشعراء، والنقاش الذي يدل على أن عقليته مشوهة تماماً، وليس عنده أي قدر من المفهومية أو العقل أو الذكاء.
كذلك هنا أيضاً يسأل موسى عليه السلام ويقول له: ﴿قَالَ فَمَنْ رَبُّكُمَا يَا مُوسَى * قَالَ رَبُّنَا الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى﴾ [طه: ٤٩ - ٥٠]، وانظر إلى المراوغة، يريد أن يصرف النقاش عن صلبه، ومحوره الأساسي، قال الله عنه: ﴿قَالَ فَمَا بَالُ الْقُرُونِ الأُولَى﴾ [طه: ٥١]، وما دخل القرون الأولى بالموضوع الذي نتكلم فيه؟! لقد كان هذا السؤال إما لصرف موسى عليه السلام عما يدعوه إليه أمام ملئه أو لشغله عن دعوته إلى التوحيد، وتوضيح الحقيقة أكثر وأكثر في الدعوة إلى (لا إله إلا الله)، وإشغاله عما أرسل به، وإما أنه كان يتوهم أن موسى يعرف الغيب فلذلك سأل عن أحوال الْقُرُونِ الأُولَى، فأراد أن يقف على نبأ ما مضى، كل هذا من أجل أن يقطع موسى عن الوصول إلى هدفه وغايته! فلما قال: ((فَمَا بَالُ الْقُرُونِ الأُولَى))، أجابه موسى عليه السلام بأن هذا سؤال عن الغيب، وقد استأثر الله به فلا يعلمه إلا هو، وليس من شأن الرسالة أن تتكلم عن تفاصيل القرون الأولى، وإنما علمها مكتوب في اللوح المحفوظ محصي غير منسي، ((قَالَ عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي فِي كِتَابٍ)) [طه: ٥٢]، وهو اللوح المحفوظ، ﴿لا يَضِلُّ رَبِّي وَلا يَنسَى﴾ [طه: ٥٢]، ويجوز أن يكون قوله: (في كتاب) تمثيلاً لتمكنه وتقريره في علم الله عز وجل بما استحفظه العالم وقيده بالكتبة، فنشبه علمه تعالى الذي لا يتغير بمن علم شيئاً وكتبه في جريدته حتى لا يذهب أصلاً، والذي يسجل المعلومات في كتاب لا ينسى.
كما في الحديث: (قيدوا العلم بالكتابة).
العلم صيد والكتابة قيده قيد صيودك بالحبال الواثقه نحن نحتاج إلى كتابة؛ لأننا نضل وننسى، أما الله سبحانه وتعالى فقد كتب كل شيء في اللوح المحفوظ، لكن هذا ليس عن خوف نسيان كما يحصل بالنسبة للمخلوقات، لذلك نزه موسى الله سبحانه وتعالى: ﴿قَالَ عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي فِي كِتَابٍ لا يَضِلُّ رَبِّي وَلا يَنسَى﴾، فمن يفعل ذلك إنما يفعله لخوف النسيان، والله سبحانه وتعالى منزه عنه، فالكتاب على هذا القول بمعناه اللغوي هو السفر لا اللوح المحفوظ.