تفسير قوله تعالى: (ولقد أوحينا إلى موسى أن أسر بعبادي)
أشار تعالى إلى عنايته بموسى وقومه من إنجائهم وإهلاك عدوهم، فقال سبحانه وتعالى: ﴿وَلَقَدْ أَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنْ أَسْرِ بِعِبَادِي فَاضْرِبْ لَهُمْ طَرِيقاً فِي الْبَحْرِ يَبَساً لا تَخَافُ دَرَكاً وَلا تَخْشَى * فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ بِجُنُودِهِ فَغَشِيَهُمْ مِنْ الْيَمِّ مَا غَشِيَهُمْ * وَأَضَلَّ فِرْعَوْنُ قَوْمَهُ وَمَا هَدَى﴾ [طه: ٧٧ - ٧٩].
((وَلَقَدْ أَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنْ أَسْرِ بِعِبَادِي)) أي: سر بهم من مصر ليلاً ((فَاضْرِبْ لَهُمْ طَرِيقاً فِي الْبَحْرِ يَبَساً)) أي: يابساً، فضرب موسى بعصاه البحر فانفلق وجاوزه إلى ساحله، ((لا تَخَافُ دَرَكاً)) أي: لا تخاف من فرعون وجنوده أن يدركوك من ورائك، ((وَلا تَخْشَى)) أي: غرقاً من بين يديك.
إذاً: قوله ((لا تَخَافُ دَرَكاً)) من الخلق أن يلحقوك ويدركوك، ((وَلا تَخْشَى)) مما أنت عليه من الحال بين يديك، وهو الغرق في البحر، ((لا تَخَافُ دَرَكاً)) لا من خلفك ولا من أمامك، ولا تخشى غرقاً.
يقول الشنقيطي رحمه الله تعالى: ذكر جل وعلا في هذه الآية الكريمة: أنه أوحى إلى نبيه موسى عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام: أن يسري بعباده -وهم بنو إسرائيل- فيخرجهم من قبضة فرعون ليلاً، وأن يضرب لهم طريقاً في البحر يبساً، أي: يابساً لا ماء فيه ولا بلل، وأنه لا يخاف دركاً من فرعون وراءه أن يناله بسوء، ولا يخشى من البحر أمامه أن يغرق قومه، وقد أوضح هذه القصة في غير هذا الموضع، كقوله في سورة الشعراء: ﴿وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنْ أَسْرِ بِعِبَادِي إِنَّكُمْ مُتَّبَعُونَ * فَأَرْسَلَ فِرْعَوْنُ فِي الْمَدَائِنِ حَاشِرِينَ * إِنَّ هَؤُلاءِ لَشِرْذِمَةٌ قَلِيلُونَ * وَإِنَّهُمْ لَنَا لَغَائِظُونَ * وَإِنَّا لَجَمِيعٌ حَاذِرُونَ * فَأَخْرَجْنَاهُمْ مِنْ جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ * وَكُنُوزٍ وَمَقَامٍ كَرِيمٍ * كَذَلِكَ وَأَوْرَثْنَاهَا بَنِي إِسْرَائِيلَ * فَأَتْبَعُوهُمْ مُشْرِقِينَ * فَلَمَّا تَرَاءَى الْجَمْعَانِ قَالَ أَصْحَابُ مُوسَى إِنَّا لَمُدْرَكُونَ * قَالَ كَلاَّ إِنَّ مَعِي رَبِّي سَيَهْدِينِ * فَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنْ اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْبَحْرَ فَانفَلَقَ فَكَانَ كُلُّ فِرْقٍ كَالطَّوْدِ الْعَظِيمِ﴾ [الشعراء: ٥٢ - ٦٣] جبل من الماء هنا، وجبل من الماء نفسه هنا، وكلاهما وقف بقدرة الله كالحائط! ﴿كَالطَّوْدِ الْعَظِيمِ﴾ [الشعراء: ٦٣]؛ لأن البحر عميق، فالماء وقف كما يقف الجدار من الجانبين، ثم انكشف لهم القاع، ومشوا عليه، والماء منصوب بقدرة الله سبحانه وتعالى! وهذه آية من آيات الله سبحانه وتعالى، أما الآية العظمى الأخرى -والله تعالى أعلم- فهي أن فرعون أعمى الله عقله فسيطر عليه الغرور والكبر إلى آخر لحظة في حياته، ومع كل هذا لا يقول: آمنت بالله سبحانه وتعالى، وهو يرى هذه الآية وهم يمشون والماء واقف من الجانبين، وقد انكشف لهم القاع، فمع أنه يرى هذه الآية، فللكبر والعتو يمضي وراءهم ويطاردهم داخل هذا البحر إلى أن نجى الله موسى ومن معه، ثم انطبق البحر على فرعون وجنوده وأغرقهم.
قال: فقوله في الشعراء: ﴿أَنْ اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْبَحْرَ فَانفَلَقَ﴾ [الشعراء: ٦٣] أي: فضربه، فانفلق يوضح معنى قوله: ﴿فَاضْرِبْ لَهُمْ طَرِيقًا فِي الْبَحْرِ يَبَسًا﴾، وقوله تعالى: ﴿قَالَ أَصْحَابُ مُوسَى إِنَّا لَمُدْرَكُونَ * قَالَ كَلاَّ إِنَّ مَعِي رَبِّي سَيَهْدِينِ﴾ [الشعراء: ٦١ - ٦٢]، يوضح معنى قوله: ((لا تَخَافُ دَرَكاً وَلا تَخْشَى))، وقد أشار إلى ذلك في سورة الدخان في قوله تبارك وتعالى: ﴿فَدَعَا رَبَّهُ أَنَّ هَؤُلاءِ قَوْمٌ مُجْرِمُونَ * فَأَسْرِ بِعِبَادِي لَيْلاً إِنَّكُمْ مُتَّبَعُونَ * وَاتْرُكْ الْبَحْرَ رَهْواً إِنَّهُمْ جُندٌ مُغْرَقُونَ﴾ [الدخان: ٢٢ - ٢٤]، إلى غير ذلك من الآيات.
وقال الزمخشري في تفسير هذه الآية: ((فَاضْرِبْ لَهُمْ طَرِيقاً فِي الْبَحْرِ يَبَساً)) أي: فاجعل لهم طريقاً، من قولهم: ضرب له في ماله سهماً، وضرب اللبن عمله.
اليبس مصدر وصف به، يقال: يبس يبساً ويبيساً ونحوهما العدم، ومن ثم وصف به المؤنث فقيل: شاتنا يبس، وناقتنا يبس: إذا جف لبناها.
وقوله: ((لا تَخَافُ دَرَكاً)) الدرك اسم مصدر بمعنى الإدراك، أي: لا يدركك فرعون وجنوده ولا يلحقونك من ورائك، ولا تخشى من البحر أمامك، وعلى قراءة الجمهور: (لا تخاف) فالجملة حال من الضمير في قوله: (تضرب) أي: تضرب لهم طريقاً في حال كونك غير خائف دركاً ولا خاش.


الصفحة التالية
Icon